الهرولة المحض

محمد حجيري

الأحد 2020/09/13
بعد اتفاق أوسلو عام 1993 بين الفلسطينيين والاسرئيليين برعاية اميركية، كتب الشاعر السوري الدمشقي الغاضب نزار قباني قصيدته "المهرولون"، تقول: سقطت آخر جدران الحياء/ وفرحنا ../ ورقصنا ../ وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء .../ لم يعد يرعبنا شيء / ولا يخجلنا شيء / فقد يبست فينا عروق الكبرياء ..
......
سقطت ../- للمرة الخمسين – عذريتنا../ دون أن نهتز... أو نصرخ../ أو يرعبنا مرأى الدماء../ ودخلنا في زمن الهرولة../ ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة ../ وركضنا .. ولهثنا ../ وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة...

بالطبع مثل هذا الكلام الصارخ يسحر المجموعات الشعوبية والنضالية، فالقصيدة بشكل أو بآخر تحولت قناعاً للكثير من "الافكار" والرسوم الكاريكاتيرية، وباتت منشوراً يستغله مناهضو "السلام"، من مختلف الجبهات والجهات الحزبية والايديولوجية، وبات هناك من يقول "هل كان نزار قباني ينتمي الى حركة حماس"؟ فبعض اعضاء هذه الحركة الذي يكرهون الشعر ووصفوا موت محمود درويش بالنفوق، وزعوا القصيدة في الجامعات في إطار حملة تحريضية ضد اتفاق اوسلو...

بالطبع لم يكن غريباً أن يكتب نزار قباني هذه القصيدة، فهو يكتب مواقف شعرية وان كان لها تأثيرها الشعبي والسياسي، ومواقفه تعود إلى عام 1954 وباعترافه قصيدة "خبز وحشيش وقمر"، كتبها بعد تسلم عمله كدبلوماسي في لندن، وأثارت وقتها أزمة كبيرة وصلت إلى البرلمان السوري، وإلى مطالبة بعض الأصوليين بطرده من وزارة الخارجية، وأحدث قصيدته "هوامش على دفتر النكسة" ضجيجاً من نوع مختلف وسط اقطاب القومية العربية والناصرية، بعد هزيمة 1967... وضجيج نزار كثير ومتنوع في مجتمع يعشق الشعر وينتظره مليئاً بالمواقف الحادة والهجاء والصخب وحتى الشتم(من نزار قباني الى مظفر النواب)، وقصيدة "المهرولون" فباتت "مصطلحا" صحافياً وكتابياً مبسطاً واقرب الى كليشيه نجده في المقالات والمواقف والتعليقات... والهرولة بحسب الجوهري "ضرب من العدو بين المشي والعدو"، وقيل "الهرولة فوق المشي ودون الخبب والخبب دون العدو". إذا الدلالة المعجمية للفظة الهرولة هي السير بسرعة، لكن في القصيدة النزارية أتى معنى الهرولة مختلفاً... كتب بشير تاوريرت في جامعة بسكرة الجزائرية، لقد تجاوز نزار قباني في هذا العنوان الشعري تلك الدلالة الهامشية التي تدل عليها الهرولة (السير بسرعة) فأصبحت اللفظة تدل على اللاثبات واللاستقرار، والاضطراب واللانسجام والحركة والتخاذل، هذه الدلالات الفرعية تتموقع كلها تحت مظلة الدلالة الرئيسية التي يشغلها ملفوظ الهرولة، وكل عبارات القصيدة "تدل على الاضطراب واللاستقرار، وهي صفات اتسم بها الرأي العربي في ظل هذه التراكمات السياسية الزائفة والحائرة"، إنها "مسيرة إنسان ممزق بين ماض منير وعالم قديم محاط بالذكريات والشجن، والعالم الثاني مستقبل محاط بالهزيمة والانكسار". اليس هذا التوصيف ينطبق بقوة على بعض الجمهوريات والممالك العربية الآن التي تهرول الى التطبيع بل تتحالف مع اسرائيل، مرة بزعم التسامح ومرات خوفاً من ايران... بل ينطبق عليها طوال السنوات في مرحلة وصفتْ "بالفوضى الخلاقة"، و"التمدد الثوري الايراني"، وحتى الربيع العربي...
على ان الجدل الابرز حول "المهرولون" كان بين نزار قباني والروائي المصري النوبلي نجيب محفوظ، في ملف أعدت مجلة روزاليوسف في عددها رقم (3514) الصادر في (16/10/1995) اذ وصف محفوظ القصيدة في تصريح لجريدة "الحياة" بأنها: "قوية جداً، وقنابل تفرقع في عملية السلام، من دون أن تقدم بديلا عنها". وأضاف محفوظ: "لقد أعجبتنى رغم اختلافي السياسي معها.."، "إنني لا أنفي إعجابي بها، ومن يشارك نزار قباني موقفه، سيجد فيها تعبيراً قوياً عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية.. وموقف ضعيف". وجاء رد نزار قباني على نجيب محفوظ ردا عنيفاً، وساخراً، وهو المنشور في العدد نفسه من روز اليوسف، حيث قال: "الأستاذ نجيب محفوظ، إنسان رقيق كنسمة صيف، وحريري في صياغة كلماته، ويضيف الشاعر قائلا: "هذا موقف الشعر مما يجري على المسرح العربي، فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفي (ضعيفا).. ويطالبني بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التي يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإنني أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة، ربما كنت في قصيدتي حاداً، وجارحاً، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة، ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من (حزب الحمام).. وقدري أن أكون من (حزب الصقور)؟!
ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة .. وكنت مصنوعا من النار.. والبارود؟! ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة في (مقهى الفيشاوي).. وكانت القصيدة عندي، هجمة انتحارية على القبح والإنحطاط، والظلام، والتلوث السياسي والقومي؟!"
بغض النظر عن مضمون القصيدة ووقعها وزمنها، الان يعود تعبير "الهرولة" بقوة الى أروقة الغوغل ووسائل التواصل الاجتماعي. اذ أصبحت الهرولة المحض سائدة في السياسة العربية، كل شيء يقوم على الهرولة، خصوصا تطبيع العلاقات بين الامارات والبحرين واسرائيل والبحرين، وقبلهما التواصل بين السودانيين والعمانيين والمغاربة واسرائيل، والحبل على الجرار...

الارجح أن بعض العرب الآن، هم بين "الهرولة"، أي مضمون القصيدة النزارية، و"الموقف الضعيف" الذي يصف فيه نجيب محفوظ موقف صديقه نزار قباني. بمعنى أنهم يقدمون السلام ليس من منطلق شجاعة سياسية بل خنوعاً وخوفاً على مواقعهم... هو يقدمون على السلام مقابل السلام(ربما الاستسلام مقابل السلام)، وليس السلام مقابل الارض أو أي شيء، في منطقة تبدو اشبه ببرميل بارود وسياستها اشبه بكثبان رملية، وتلفها ميليشيات تبدأ بالحوثيين ولا تنتهي بداعش والحشد الشعبي والخ...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024