زياد عبدالله: "حيونة الإنسان" في "مناطق محررة"

هيثم حسين

الثلاثاء 2018/01/30
يستعير السوريّ زياد عبدالله في روايته "كلاب المناطق المحرّرة" توصيف المناطق المحرّرة الذي درج على ألسنة مختلف الأطراف المتحاربة في سوريا. استعملت المعارضة بداية التوصيف، ذلك حين كانت تستولي على مناطق معينة وتخرج منها قوّات النظام التي كانت تحتلّها، ثمّ بدأ التوصيف المعاكس من قبل النظام، بزعمه تحرير المناطق التي احتلّها مَن يصفهم بـ"الإرهابيين".. وهكذا كان التلاعب بالمصطلحات والتسميات.
  
يصف عبدالله في روايته (منشورات المتوسط، ميلانو 2017) كيف أنّ المعنى المراد يقع في شراك التأويل، فكلّ طرف يدّعي أنّه المحرّر في لعبة الحرب الفجائعية التي لا يخرج منها أيّ رابح، يرمز إلى أنّ التفاوت يكون في حجم الخسارة المعمّمة، التي تعكس بدورها خراباً مستشرياً في النفوس، بالتوازي مع دمار المدن وتشريد أهلها.
 
يحيل عبدالله إلى السلوكيات الحيوانية التي تنتشر في خضم الحروب، وتشيئة الإنسان المصاحب لها، وما يمكن وصفه بـ"حيونة الإنسان" بحسب تعبير للراحل ممدوح عدوان، وهذه الحيونة هي بذرة الرواية ومدار اشتغالها، حيث الشخصيات تتحوّل تباعاً بطريقة رمزية وتفقد بعدها الإنسانيّ لتستكلب أو تتكالب على المصالح والانتهازيات، وذلك من دون أن تستلف من الكلاب وفاءها المعهود. 

يبرز عبدالله واقع انفتاح المناطق التي تكون ساحة حرب بين النظام والمعارضة على تدمير وتشويه منقطعي النظير، يقع الناس ضحايا الإجرام الذي يسعى إلى التضليل بالشعارات المنادية بالدفاع عن الشعب والوطن، مع تجاهل مآسي كثيرين ممّن تسبّبت الحرب في تشريدهم وتدمير بيوتهم ودفعهم إلى الضياع والجنون.

يتجنّب الراوي مناصرة هذا الطرف أو ذاك، يزعم نقل الحوادث والوقائع بعين مدّعي الحياد أو الباحث عنه، يعمّم التجريم على جميع من ساهم في زيادة مآسي السوريّين، يؤثر التنقل بين الأمكنة لرصد معانيات أهلها الذين أغرقوا في دوّامات اليأس والإحباط. 

تعكس الرواية التفكّك الذي طاول البنى الاجتماعية السوريّة، وتستعين بالتفكّك الفنّيّ وسيلة لتظهير التفكّك الواقعيّ نفسه، حيث يتنقّل الراوي بين مشهد وآخر بشيء من العبثيّة والغموض، يكون التوتّر المصاحب له جزءاً من بنية الشخصية القلقة غير المستقرّة الباحثة عن ملاذ يبدو بعيداً من المتناول.
 
تتداخل حكايات شخصيّات عديدة (هدى، نجوان، برهان، حسان، إبراهيم، أبو المجد، ميسي.. وغيرهم) وتتفارق بعبثيّة لا تستدلّ إلى نتيجة أو تهدئة، وكأنّي بالروائيّ يشير إلى أنّ الحرب لعبة عبثيّة وحشيّة مدمّرة لا سبيل إلى التخلّص منها لمَن تورّط فيها، ولمن تلوّثت يده بدماء إخوته المفترضين من أبناء بلده الذي أصبح مقبرة مفتوحة ومنهباً للعصابات المتستّرة بأقنعة طائفيّة ومذهبيّة بائسة. 

يتحدّث صاحب "ديناميت" عن مأساة الطفولة المهدورة على مذبح الحرب المستعرة، وكيف أنّ الأطفال هم الضحايا الأكثر إيلاماً، الأبرياء الذين يدفعون ضرائب أفعال الكبار المجنونة، من دون أن يكون لهم إثم في ما يلاقونه، ويتمّ نسف مستقبلهم وسرقة أحلامهم عبر تسميمهم بسموم الحرب والثأر. يتّخذ الطفلين الأخوين "برهان ونجوان" مثالاً على هدر الطفولة، إذ ينتظران أمهما التي يكون قد مضى على مقتلها قرابة عشرين يوماً، من دون أن يتفهما فجيعتهما بيتمهما المبكر. 

يصوّر عبدالله مفارقة مأساوية تتمثّل في أنّ وعي الطفولة يقنع الطفل بأنّ ألعابه قد تساهم بإنقاذه ممن قد يهدّده أو يستهدفه، يبتدع لنفسه صيغة حماية ويحاول الاستقواء بها، ويبرز كيف أنّ تلك البراءة تتعارض مع الحطام الذي يعيش فيه، والركام الذي يغرق محيطه. 

ينسج زياد خلطة روائية قوامها العبثية والغموض والضياع والتشتّت والتفكّك بلغة شاعرية، كأنّ الشعرية التي يضفيها على لغته تكون ردّاً على ما تسلبه الحرب من الشخصيات، وواقع أنّ الاستلاب يزداد قسوة مع تقدّمها في تجربة المواجهة مع ذاتها والمحيطين بها.
 
يورد إحدى شخصياته، "إبراهيم"، ليكون الشاهد الشهيد في المحنة التي تغرق عالمه، يتحول إلى آخر لا يشبه نفسه، ينسلخ عن كيانه، يتجسّد بطريقة ما بصيغة كلبية، يظهر اشمئزازه من الظروف والأوضاع التي تتفاقم سوءاً وأسى من حوله، يفقد بوصلته في بحثه عن نقطة أمان أو هدوء مرجوّة.

يحرص الراوي على التقاط بعض الجماليات من منطلق التأكيد على أنّ الحياة لا تخلو من محفّزات للبقاء والاستمرار والمقاومة، الموسيقى مثلاً إحدى أدوات التعبير عن الجمال، بالإضافة إلى الشعر الذي يكون حاضراً متخلّلاً الفصول، ومظهراً شخصيات مسكونة بالتوق إلى عيش حياتها والتغلّب على مآسيها التي أنتجتها الحرب.

من جملة ما تستعرضه الرواية وتضمّنه في خطابها المضمر، التقاط مشهد مستلّ ممّا تخلّفه الحرب من كوارث، ورثاء الواقع والمستقبل، وذمّ ما يسود من بلطجة وتشبيح، وتعرية مزاعم القتلة ومحاولتهم تبرير جرائمهم، بالتوازي مع إدانة المجرمين على أفعالهم، والوقوف على خرائب المدن المنكوبة وكشف المخبوء الذي يتمّ التعتيم عليه، وتوصيف التفرّج على العبث بالدماء، حيث حلبة صراع محتدمة لا تستدلّ إلى طريق للنهاية. 

لا يتحدّث الروائيّ عن بداية للحرب ولا يختم بالتفاؤل بأيّة نهاية وشيكة لها، يبقي شخصياته حائرة تائهة في دائرة العبث والضياع، لا يتحايل بالإشارة إلى أنّ الحرب قد تضع أوزارها قريباً، بل يبقيها وزراً لا نهائياً متناسلاً ومتشعّباً في الزمان والمكان، يكون صادماً لقارئه بواقعيته، غير راغب ببيع الوهم وإن كان برداء أمل مضنٍ.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024