"العزومة" لطه سويدي: تعليقات على الكتابة

شادي لويس

السبت 2020/03/21
"نذكر-وذكرانا غير مهمة- بأن سيرة الولد ليست كسيرة الأبطال، ولا البؤساء، وإنما هي قصاصات من الملل، وربما تكون الحكايا التي تتفلها أي جدة أو خالة أكثر دلالة، وأشد جذباً".
 
لا يتوقف طة سويدي في روايته الأولى، "العزومة" (2020) عن تذكيرنا بهامشية قصة بطله، وربما تفاهتها، عدم جاذبيتها، وافتقادها للدلالة أو القيمة. بإخلاص لصورة "ضد البطل"، لا يكتفي سويدي بنزع البطولة عن يونس شخصيته الرئيسية، بل وأيضاً يجرده بقسوة من الحق في المأساة. فإن كان محور الرواية المعاصرة هو الهزيمة الأكيدة للفرد، فإن "العزومة" تذهب أبعد من هذا، وهي تقوم بتسطيح الهزيمة نفسها، وعن عمد. تحول الرواية نقطة ارتكازها أكثر من مرة: رسالة غامضة، مجرد ملف "وورد"، صاحبه يختفي بعد تركه في عهدة آخرين، دعوة للعشاء لا يستجيب لها أحد، الغواية الكامنة في لامعنى الرسالة والحيرة أمام هامشية النصوص التي يحتويها الملف وغرضها، الانتهازية التي تقفز في وسط كل هذا، عن رحلة البحث - نصف البوليسية عن البطل الغائب، عن عالم مهمش، وأناس منسيين، عمال يتم تسريحهم من وظائفهم فيختفون، وتبتلعهم الأرياف التي أتوا منها، عن نظرات تلصص شهوانية لا يجرؤ البطل على سواها، وتنتهي دائماً بالنبذ والعار، عن صداقات لا تحدث، وطموحات تهبط، درجة وراء الأخرى، حتى تصل إلى لا شيء. 

"أحطم مجدداً قراري بالتوقف عن ثرثرتي، هنا جئت لهذه الصفحات لأضمد الخيبة بالخيال"، بين كل تلك الخيوط المتشابكة، ورويداً رويداً، يتكشف المحور الرئيسي للرواية، الكتابة نفسها كموضوع للكتابة، كمهرب من الخيبة، النص بوصفه الشي الوحيد الباقي، ما يتركه صاحبه المختفي وراءه، انتصاره الأخير على من نبذوه، أو بشكل أدق انتقامه من العالم. يحاول يونس أن يجد في ورش الكتابة تعويضاً عن فشله في التمثيل عن وضعه المادي الصعب وعن حياته العاطفية الفاشلة وعن عمله اليدوي الذي لا يجتذب احترام أحد. تخصص الرواية قدراً كبيراً من مساحتها، للورش، ولتمارين الكتابة، للتعليق على كتابات الآخرين، على رسم الشخصيات والحبكة والسرد وعن بنية الجمل.

فجأة، وعند نقطة تلاقي خطين للسرد، يكتشف القارئ أن قصة يونس أو الولد، تروى مرتين في الرواية، يكتشف ذلك بأثر رجعي. مرة ببنية واقعية ولغة مباشرة، ومر ثانية بلغة نصف تراثية تركز على الجماليات، رمزية ببناء سحري يشبه قصص العفاريت والسِّير الشعبية. يبدو الأمر في جانب منه، كتعليق على الكتابة، على مستوياتها، أو ميتا سرد. كيف يمكن أن تحكى قصة مرتين، القصة نفسها، وبالكاد يلاحظ المتلقي هذه العلاقة المضمرة، تعليق على العلاقة بين المحتوى والقالب، الجماليات والمضمون، التعبير والتلميح، وأولوياتهما.

في معرض إبداء النصح للكتاب، يقول بورخيس: "عندما أكتب شيئاً أحاول ألا أفهمه، لا أعتقد أن للذكاء علاقة كبيرة بعمل الكاتب، إحدى خطايا الأدب الحديث عن امتلاكه الكثير من الوعي الذاتي". تبدو خطيئة "العزومة" في ذلك الشعور الذي يتسرب إلى القارئ، بإن كاتبها واعٍ بأدواته واستخدامها أكثر من اللازم. لغة سلسلة، جمل مقتصدة ودقيقة، بتدفق ناعم ومنضبط، يكتنفها قدر مناسب من الغموض وبعض الإثارة أيضاً. الشخصية الرئيسة مرسومة بتناقضات تترك المتلقي متردداً بين الشفقة والنفور، والعلاقة بين البطل يونس ورفيقه تتيح مساحة للصراع الدرامي، وهي محملة بخليط من الإعجاب والغيرة، الانسحاق ومحاولة نيل الاعتراف، المفاجأة تتركز في بنية السرد لا الأحداث نفسها.

تظهر كل تلك العناصر مجتمعة، أحياناً، وكأنها مدفوعة بطموح واحد، هو أن تكون تمريناً على الكتابة، وإثبات قدرة كاتبها على تشييد أركان نص روائي محكم، وبحسب القواعد، وبتنويع على الأدوات، لكن بلا أفق أبعد من هذا.

في النهاية، تبدو رواية "العزومة"، الأولى لصاحبها، واعدة عن حق، وإن كانت تظل مثقلة بعبء إدراك ذاتي أكثر من اللازم، عبء لا يحمله سويدي وحده، لكن في الأغلب الكثير من أبناء جيل جديد من الكتاب، لحسن حظهم أو سوئه، يعرفون الكثير عن تقنيات الكتابة. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024