ليونارد فوجيتا: غندور ياباني في مونبارناس

روجيه عوطة

الإثنين 2019/02/11
مؤخراً، جرى اختزال العلاقة بين فرنسا واليابان في مجرد علاقة تجارية بين "رينو" و"نيسان"، بحيث ان كارلوس غصن هو بطلها وأنتي-بطلها على حد سواء. لكن هذه العلاقة هي أقدم من تلك الشراكة طبعاً، كما أنها أوسع منها أيضاً، وبالتوازي مع انطلاقها اقتصادياً، فقد كان مقلبها الثقافي ولا يزال رحباً للغاية.

من الجهة الفرنسية، وللتعرف على هذه العلاقة، لا يمكن الاكتفاء بالسير في الحي الياباني بباريس، أو الأكل من المطبخ الياباني المتوزع كمطاعم في أنحاء المدينة، أو الاطلاع، ومن حين إلى اخر، على مطبوعات دار بيكا لفن المانغا، إنما، وبالاضافة إلى كل ذلك وغيره بالتأكيد، لا بد من قصد "بيت ثقافة اليابان في فرنسا" الذي يقدم حالياً معرضاً للفنان تسوكوهارو فوجيتا، بحيث أنه، وعبر أعماله، يبين العلاقة بين اليابان وفرنسا في صعيد التأثر الفني الذي تبادلاه.

في العام 1913، وبعد دراسته الفنون الجميلة في طوكيو، انتقل فوجيتا إلى باريس، والى حي مونبارناس تحديداً، حيث عاش كغندور آسيوي، والتقى بالكثير من الرسامين، وعلى رأسهم بيكاسو. وقد كان لهذا اللقاء وقع كبير عليه، إذ، ومن جرائه، سلك سبيل الفن الحديث، الذي حمله، وهنا سمة اساس من سمات رسمه، إلى الجمع بين مختلف معاييره وتقنياته. فبعد خمس سنوات، قدم معرضه الأول، الذي بدا فوجيتا فيه أنه يرسم على منوال تعبيري، كما أن جواً بعينه يطغى على رسمه هذا، وهو شبه سوداوي، مثلما يظهر في لوحته "الفتاة مع لعبتها".

على أن المنوال التعبيري، وفي العام 1929، صار واقعياً سحرياً، وهذا ما تظهره سلسلة لوحاته حول القطط، التي صورها وحدها، أو بطريقة بودليرية، مع أجساد النساء، لا سيما جسد مادلين التي كانت موديله الحي ثم غدت عشيقته، قبل أن تموت بجرعة مفرطة من المخدرات.

وفي إثر معارضه الباريسية، ذاع عمل فوجيتا في أوروبا، ووصل إلى  الولايات المتحدة. وربما، من حقبة عرض رسمه في نيويورك، لا بد من الإشارة إلى الاختلاف بين لوحة "الصديقين" ولوحة "ثلاث نساء" على الرغم من كونهما مرسومين في العام نفسه. ففي لوحة الصديقين، الحبر الخفيف يجعل المشهد هشاً، أما في لوحة النساء الثلاث، فالألوان تتراكم فوق بعضها بعضاً، وتصبح ذاتاً ثقيلة. التناقض بين الاثنين ينسحب على اغلب لوحات فوجيتا في الفترة الأميركية، بحيث انه يربط في مناظرها بين ما يشي بالزوال وما يدل على ثبات، بين ما هو ضئيل وما هو ضخم، وطبعاً، ربطه يفضي إلى تلقي رسومه كما لو انها رطمة من قطن.

سافر فوجيتا إلى البرازيل، ثم لم يعد إلى باريس، بل إلى طوكيو، حيث انضم الى الجيش في حربه ضد الصين. لكن، في العام 1939، عاد الى فرنسا، قبل أن يجتاحها النازيون، وعندها رجع إلى اليابان. في وطنه الأم، ادى دور الرسام البروباغندي، لكنه لاحقاً عمل على مد الأميركيين بكل الرسوم التي وضعها فنانون يابانيون ضدهم. الأمر، الذي عرضه إلى تهمة الخيانة الوطنية، ودفعه إلى ترك بلاده بطريقة نهائية. من المرحلة البروباغندية، لوحة قيمة، وهي "موت بطولي في جزيرة آتوو"، التي لا شك أن فوجيتا رسمها بالاستناد الى ما شاهده من لوحات دولاكروا في اللوفر.



بقي فوجيتا في باريس، في حي مونبارناس، من العام 1950 حتى العام 1960، عندما انتقل الى منزله في "لافاليه دو شوفروز". الواقعة الأبرز في مرحلته الأخيرة هو دخوله إلى إحدى الكنائس في "رانس"، وقراره التحول إلى كاثوليكي، وتغيير اسمه إلى ليونارد فوجيتا، حباً بالقديس الياباني ليونارد كيمورا، وبالفنان الإيطالي ليوناردو دفينتشي. وبتحوله هذا، غدا رسم فوجيتا دينياً، بحيث يجسد مشاهد من حياة يسوع المسيح، علماً أنه كان قد رسم من تلك المشاهد من قبل، الا انه لم يستكملها وتخلى عنها.

في كل مرحلة من مراحله، بيّنت أعمال فوجيتا صلته بالرسم الفرنسي، أو بالفن مثلما أشاعته "مدرسة باريس"، ولاحقاً كل التيارات التي استقبلتها المدينة، وكانت سوقاً لها. لكن هذه الصلة لم تود بفوجيتا سوى إلى إنتاج طريقة رسم خاصة به، يجد الكثيرون انها تجمع بين الخط الياباني والمنظور الفرنسي، والأوروبي على العموم. وبالفعل، معرض فوجيتو، الذي مات العام 1968 بسبب إصابته بالسرطان، يبين تلك الصلة بإبانة حكاية فنان بدأ متسكعاً، وانتهى متصوفاً، يرفع صلاته إلى ربه بعدما خلع الحلَق من أذنه، وبدَّلَ تسريحة شعره. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024