"الرائعون" لا يموتون إلا قتلاً

وضاح شرارة

الأربعاء 2018/11/21
قبل أشهر، بادر شاب مقيم في الخندق الغميق إلى قتل نفسه أو نحرها، أي أن الشاب انتحر. ولم يُعرف كثير عنه. وما عرف اقتصر على أمرين: الفقر و"الاختلال" (الاعتلال) العصبي. وقبل أشهر من الحادثة، خرج رجل يقيم في البسطة التحتا على بعض المارة، وأطلق الرصاص عليهم بعد مشادة مع سكان مبناه، فقتل اثنين منهم وقتله بعض جيرانه. وروي عن القاتل أنه فقير ومريض. ويجمع الحادثتين الداميتين بابان: الإقامة في ناحيتين متصلتين، و"الإصابة" بالعَوز والمرض. 

وتناولت الحادثتين تباعاً صحافيتان تكتبان في صحيفة واحدة. وخلصت كلتاهما بعبارات تكاد تكون هي نفسها، إلى أن "السبب" المباشر في القتل هو الإقامة بالقرب من جسر فؤاد شهاب- "الرينغ" في رطانة شائعة ترددها الكاتبتان- والشهادة على سيل السيارات الفاخرة التي تُرى من حيث يقيم البؤساء، وعلى ناطحات السحاب القريبة التي تعلن ازدراءها الفقراء الكادحين وتعيرهم ضيق ذات يدهم، ومعدهم الخاوية، وعجزهم عن طبابة باهظة. 

وعلى هذا وبإزائه، وعلى مشهد من المعذبين والمستضعفين واليائسين، كيف لا يمرض هؤلاء ولا يُعمِلون في الناس، وفي أنفسهم، من غير تمييز (لأن التمييز يقتضي وقتاً وتدبراً لا يملكهما إلا الأثرياء، مصاصو الدماء الزكية، والمفتونون بأنفسهم)، القتلَ الذريع والضرير؟ ولو كان القتل مبصراً لاختار أصحاب السيارات المختالين بسياراتهم، والقافلين الى شققهم "المليونية" حيث تنتظرهم أسر هانئة، وأسرّة رخوة، وشراب مريء.

والمبالغة، في تلخيص الخبرين اللذين يدمجان الرواية في التأويل والتعليل المريرين، قليلة، ولا تتعدى الصياغة، وتقصِّر عن المعنى المتأجج والمعتمل في القلوب (قلبَيْ الصحافيتين و"قلوب" الصحيفة مجتمعةً). ويبدو اقتراح تقصي الخبر(ين)، وتفصيلهما، وعرض تفاصيلهما على شهود وأقارب وأصحاب، وربما مقارنتهما بحوادث أخرى قد تشبههما- وأقول: اقتراح، وليس طلب -معاذ الله- ضرباً من الوقاحة لا يحتمل. وهل يخطر ببال إنسان سوي، فيه ذرة من الانسانية والأخوة والإحساس، أن يطيل الوقت بين وقوع الواقعة والعلم بها وبين الحكم برأي قاطع فيها، والتلهي البورجوازي في الأثناء بالتحقيق والتدقيق وتقليب النظر؟ أليس هذا ترفاً يفضح المصدر المتوحش الذي يصدر عنه الداعي إلى هذا؟ 

وما قد ينسب إلى عاملة أُوكل التحرير إليها على عجل نقل خبر "حار"، والتعليق عليه على ضوء "خط" الصحيفة التحريري وفي هذا الضوء، يدل تواتره وشيوعه (فشوه؟) في الصحيفة وجوارحها على الطينة العاطفية والفكرية المعيارية التي جُبل منها ويجبل مذهب في الكتابة.

ففي الأمس القريب، توفي رجل مسرح عن 62 عاماً قضّى منها نحو ثلثيها على الخشبات وبجوارها الى وقت قريب. وكان الرجل يشكو من داء السكري، ووجه من وجوه صفته وكيانه المسرحيين والظاهرين كتلته الجسدية الكبيرة، ووجهه الطفولي والولادي. ويقول فيه مؤبِّنه وصديقه (الأخبار، في 19/11، ص3) المفترض إن لون دمه الأحمر استحال أبيض، كناية عن غلبة الدهون على دمه وفيه. و"موت الأهل" أدى به إلى اعتزال الناس ومجتمعاتهم.

وأغرقه "تعبه" و"صمته" في عزلة بيتية حالت بينه وبين التدريس، إلخ. وتميل حلقات التشخيص إلى تعليل مصير الرجل، ووفاته في نهاية المطاف، بـ"مرض الإرادة"، على ما سمى في مطلع القرن العشرين أطباء فرنسيون عياديون "النوراستينيا" (أو النوس العصبي). ويخالط مرض الإرادة أو نوسها وتلفها (على قول بلدي) الاكتئاب والانكفاء وتقوض العمل. فإذا تضافرت على الواحد أعراض صحية ووظيفية وراثية، "خالصة"، وأعراض طارئة، نفسية واجتماعية من غير انفصال، حركتها ملابسات درامية، على معنى الحادثة المسرحية، كانت الإصابة قاسية وقد تكون مدمرة.

وفجأة، في الفقرة الأخيرة من تأبين الصديق المفترض تأبيناً يترجح بين التقرير الآسي وبين خطابة الوداع والرثاء، يكتب المؤبِّن ما يحسبه ربما أو يريده بيت القصيد أو "افتح يا سمسم" على كناية استعادها الغربيون من "ألف ليلة" العربية: "لم ينتحر زياد... لكن موته، مثل موت الناس الرائعين، وكما قال الراحل أنسي الحاج في رثاء جوزيف سماحة، فإن موت زياد أبوعبسي، قَتْلٌ، جريمة يتحمل مسؤوليتها هذا البلد التافه بكل من فيه وما فيه!". 

فمن باب مراجع يحملها القائل على مكانة عالية- رأياً وموضوعاً، و"روعة" على الحالين- يعود القائل الى الجلوس أو القعود في الخندق الغميق والبسطة التحتا. فمن هذين الموضعين يشرف القاعد، والقاعدة (!)، على حقيقة الوجود. وهذه سبق أن تجلت في من سماهم جهاز الدعاية والدعوة والتعبئة في جهاز حزبي وحربي حديدي وصاروخي: "سادة قافلة الوجود". ويقصد بهم بعض من قُتلوا من أعيان الجهاز، بمفعول رجعي فيما يعني بعضهم، في الحرب الاسرائيلية. 

وكلمة "الوجود" هي مفتاح ما قد يستغلق على الذهن، البليد حكماً، أي غير الرائع، أي التافه، أي اللبناني (على أوجه معاني النسبة). فالوجود، في علوم العرفان والبواطن الإشراقية، هو ما يتعالى عن التفاهة. ومثال التفاهة الجلي والبذيء والكريه هو تعليل الحوادث الكبيرة، والموت فيها ومنها، بواسطة ربط وقائع وأحوال بعضها ببعض ربطاً سببياً وتعليلياً، والاقتصار على هذا الربط والرضا بمستواه الوضيع و"الأرضي" وبقيوده. فردّ انتحار الشاب إلى اعتلال عصبي، وإن من باب تحري الأسباب الكثيرة، تفاهة لا تليق بقلم وجودي وبصحافة وجودية.

وكاد صاحب التأبين، سهواً وكسلاً واستسلاماً للوقائع الملموسة، الانقياد إلى خلب المنطق الفاسد، وتعليل موت صديقه وذريعته بما قيض له من "أسباب" مشهورة ومعروفة.
وتذكر، على شفير الخاتمة، على نحو ما تعُود الحقيقةُ العميقة المشرفَ على نزعه وساعة تخليه (وهو معنى العبارة الأول، غير الجنبلاطي)، أن الاسترسال مع الأعراض النفسية والاجتماعية ضعفٌ ومهادنة وخيانة للراحل الرائع. ولاحت له من وراء الحجب، وعلى أقدام "العرش"، الكلمة السَّنية (بفتح السين، رجاءً): "إنه الوجود، أيها الحدودي لتافه!" (والتقابل بين الحدود والوجود يعود التذكير به، بين المحدثين طبعاً، إلى إنعام رعد، واستعاده حافظ الأسد، الرائع طبعاً).

والحق أن هذه التوبة تترتب على أمور جوهرية، على رغم تأخرها إلى خاتمة التأبين. فالرائعون، السائرون على الخط المستقيم والمعتقدون المعتقد الصحيح، فلا يخطئون البوصلة والاتجاه، ولا يقضون إلا قتلى، أي شهداء التفاهة الظالمة والمتجبرة. وهذه حالهم لأن حياتهم، على خلاف حياة سواد الناس وعوامهم ممن لم يرزقوا الهداية، شهادة على الحقيقة العميقة والخفية، وجهاد في سبيلها، وانحياز إلى أهلها المصطفين والمجتبين. 

وظاهر حالهم أنهم قضوا في فراشهم، إما من مرض أو من إرهاق أو في حادث سير أو طيران... لكن هذا الظاهر خادع ولا ينطلي إلا على التافهين ومجتمعهم (بلدهم) التافه بشراً وحجراً. فيغفل الغافلون عن أن المرض "موكول به المعنى" (ابن المقفع). ويصرخ المعنى أن الحياة نفسها مريضة وعليلة، وأشبه بالموت، في مجتمعات غير مجتمعات الحرب ولا تلحق بركب سادة الوجود وقافلتهم الهادية المهدية، السائرة إلى جمران وبهشتي زهراء وساحة آزادي وولي عصر. فما على من ينشد الحياة الرائعة، حياة الطاعة والكراهية والحداد والمشاهد، إلا الانسلاخ عن التفاهة، اللبنانية في معرضنا، والثبات في موقف الشهيد الحي، دَرى بموقفه مثل من يحصيهم المؤبِّن، أم لم يدرِ ربما مثل زياد أبوعبسي وغيره من المنتحرين خفية وتورية. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024