"أربعون عاماً في انتظار إيزابيل"… مرايا الجنوب

صلاح باديس

الخميس 2017/01/05
"أربعون عاماً قضيتها في الجنوب، وسنة جديدة بدأت الآن تلوّح لي، بمرارة، من الشمال". هكذا نقرأ في الصفحات الأخيرة من رواية "أربعون عاماً في انتظار إيزابيل"(*) للكاتب سعيد خطيبي.

تبدأ الرواية في جوّ يُشبه اللّون الرملي الذي يحيط بصورة إيزابيل ايبرهارت على الغلاف، نحن في مدينة بوسعادة، أي خلف سلسلتين جبليتين من البحر المتوسط وعلى بعد بضع مئات الكيلومترات جنوبي العاصمة، بداية الصحراء. والزمن؟ نفهم أننا في سنة 1992، من قوله: "لم يبق من الوقت سوى ثلاثة عشر يوماً، قبل اجراء الدور الثاني من الانتخابات البرلمانية، التي تميل فيها الكفّة الى حزب "العدالة"، الذي فاز في الدور الأول قبل ثمانية أيام (...) هم –طبعا- لن يستثنوا بيتي من قائمة التأميمات ولن يولوا اهتماما للأربعين عاماً التي قضيتها بينهم". السنة التي مهّدت للعشرية السوداء في الجزائر. لكن من هو الراوي؟

جوزيف رينشار، أو يوسف بعدما دخل الاسلام وغيّر اسمه، رسّام وجندي فرنسي سابق شارك في الحرب الكبيرة، وبعدها حرب التحرير الجزائرية، واقفاً مع رفيقه سليمان ضد فرنسا، يعيش في مدينة بوسعادة منذ أربعين عاماً والآن هو على بعد أيامٍ من تركها مُكرهاً. أمّا إيزابيل، فهي إيزابيل ايبرهارت رحّالة من أصول روسية سويسرية، تختلف الروايات عن سبب مجيئها إلى الجزائر في بداية القرن العشرين وإلى منطقة المغرب عموماً. ولا علاقة لها بجوزيف سوى أنّها تاهت مثله في الجنوب، وقبله بعقود، حتى جرفها سيّل هائج ذات يوم من سنة 1904 قرب مدينة عين الصفراء.

لكن هنالك خيط آخر في الحكاية، المخطوط الذي وجده جوزيف عند موظف في البلدية، رزمة أوراق صفراء يُقال أنّها لإيزابيل، يوميات من ثمانية فصول يعمل جوزيف منذ سنوات طويلة، بعد أن راجع المخطوط وحرّره ووضع له النقاط والفواصل، على تحويله إلى لوحات. وهنا يجب الإشارة إلى صورة إيزابيل في النص، جسدٌ مُتعب في طريق التلاشي رسمه الكاتب لهذه المرأة. صورتها في الرواية تشبه "إسكتشات" الرسّامين، تلبس برنوساً كعادتها متنكّرة في زي شريف بدوي اسمه السي محمود، تتكئ على جدار زاوية، قلنسوتها مائلة على رأسها كشخص غريب أو قاتل مأجور في المدن القديمة، تهمس لأحدهم بشيء، أو تدخن وتشرب الأفنسين الذي يستنزف قوّتها.

سليمان اسم غريب ولا يخلو من دلالة في أجواء كهذه، فهو اسم الرجل الذي تزوجته إيزابيل، وهو اسم الرجل الذي تبنّاه الرسّام إيتيان ديني عند حلوله ببوسعادة، شخصية حقيقية أخرى مرّت في هذه المدينة، وسنرى جوزيف يتعرّض لها في سرده. أمّا سليمان في الرواية فهو رفيق جوزيف وصاحبه، الذي حمل معه السلاح في الحرب العالمية الثانية ثم عاد ليلتقيه سنة 1951 في بوسعادة، لينخرطا سوياً في حرب التحرير، ويعيشا سوياً بعد الاستقلال. سليمان الذي تُروى سيرته عبر جوزيف، مطروداً من قبيلته، يرافق جوزيف في حياته كظلّه ويعتمد عليه هذا الأخير في كل شيء. سليمان الذي نراه دائماً في فضاء داخلي، من خلال لعبة المرايا في السّرد، من خلال كلام جوزيف، نراه واقفاً في إطار بابٍ بين غرفتين، أو يأتي صوته من حجرة ثانية ليوقظ جوزيف النائم، مائلاً في جلسته على طرف السرير وظهره لهذا الأخير...

تقريباً ليس هنالك صورة كاملة لسليمان، يقف في مكان وسط بين العتمة والضوء، أو يُعاكس أقوال جوزيف وينقضها، كلّ جمله مقتضبة وحادّة ومتعجبة من كلام صاحبه "الرومي"، لكنّه أيضاً يمثّل بُعداً تلاشى –أو قارب- من الثقافة الشعبية الجزائرية. يقول عنه جوزيف إنه شبه أمّي، يعرف الحدّ الأدنى من العربية ويتكلّم ويكتبُ بالعامية! تأتي هذه الجملة لتعبّر عن ثقافة أهلية تلاشت في جزائر ما بعد الاستقلال، العامية هنا ليست أداة ايديولوجية في يدِ فريقين (أو أكثر) من المعرّبين والفرنكوفونيين، بالعكس هي هنا الامتداد الطبيعي لوسيلة تعبير شخص عادي، يقول ويخطّ ما يعرف، يفكّ الخط باللغة التي ينطق بها.

شيءٌ لاحظته بعيني عندما قرأت رسائل الرسّام الفرنسي نصر الدين دينيه في متحفه في بوسعادة، كان هذا المستشرق الذي أقام في الجزائر وإعتنق الاسلام يكتب رسائله بالعامية، واستغربت عندما قرأتُ خطّه الطفولي في آخر رسالة كتبها يوصي فيها بدفن "فريسته" في مقابر المسلمين. الفريسة هنا الجسد بلغة أهل تلك المنطقة، ويُمكننا أن نضع فتحة فوق حرف الفاء لتصير فَريسة ونسرحَ في تأويلات عديدة، ربما أهمّها أن الجسد فريسة الزمن. وبتأويلات كهذه تسقط مزاعم جوزيف الذي يردّ على سليمان الذي يطلب منه رسم حكاياته الشعبية بدل مخطوط المسترجلة إيزابيل: حكاياتك بدون ملح يا سليمان. نجد أنفسنا نصطف وراء سليمان، ونحن نضحك، عندما يقول له: الله يهديك.

يحاول جوزيف أن يشرح وجهة نظره عن ديني، يقول إنّه مستشرق والجهات الرسمية في الجزائر تذكره فقط لأنّه أسلم، ديني كان من الذين روّجوا للصورة الاكزوتيكية عن الصحراء، وكتابه عن راقصة أولاد نايل شيء مقزز وظالم بحق هذه القبيلة. يعود الى إيزابيل، يحاول أن يجد فيها صورته، أن يجد نفسه في صورتها، يشتركان في التيه هو يقول، لكنّه ليس بجسارتها حسب ما نقرأ، هو اختار العيش وسط الناس في منزل معروف وبدخل ثابت من عمله كـ"جندي سابق"، يحمي سليمان المطرود من قبيلته ويحتمي به، يحاول أن يرسم بجديّة أكثر وينهي عمله عن إيزابيل ليدفنه في حديقة البيت، يتعب، توجعه عيناه، يهلوس، يحكي عن سيارة رونو 4 التي قطع بها الطريق برّا من الجزائر الى مكة، ثم باعها، يسقط في إنشاءات طويلة وعريضة عن "المدينة الجاحدة والبائسة" الخ... وحول كل هذا، هنالك يوميات الانتظار، يوميات التذكّر والحديث عن العيش في مدينة من غير روح، يصف النّاس والأماكن والأبنية، يصف الأحداث الصغيرة والكبيرة بين البيوت والمساجد والمقاهي، القطة الولود التي عليه إطعامها، وقت لزج لا يمُر.

لكن في النهاية يعود خيط السّرد ليشتد، الأحداث السياسية تتوالى، رئيس يستقيل وآخر يُقتل، وبين هذا وذاك يحمل سليمان وجوزيف حقائبهم ويتركون البلد، يُدير جوزيف كل المرايا التي لعب بها طيلة حياته الى الجنوب، تواجه الصحراء وتعطي بظهرها الى الشمال، حيث يتجّه، قاصداً شقته المهجورة في فرنسا مردّداً جملة "نبقى بعض الوقت ونعود". وهناك في شتاء باريس، في الغربة التي دُفع هذان الشيخان إليها دفعاً، تدور الحكاية حول نفسها لتبدأ من الأخير، يفرش جوزيف يومياته، يحرص على كتابتها وقراءتها لسليمان، يختنق من اللون الرمادي الذي يطغى على كل شيء وينتظر شخصاً اسمه سعيد خطيبي ليسلّمه الأوراق.

(*) صدرت عن منشورات الاختلاف – ضفاف...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024