أيوب المزين
نظرية الزرقة
تُفصح جملة دريدا الاستهلاليّة عن شيء مما تشتغل فيلمان، وهي متأثرة به وتبلغ عنه، فالقوة التي تعمل على نقلها تارة مشتعلة وتارة خامدة، تتبدّى في توليفاتها التصويرية والموسيقية، وتنطوي على استرداد أصوات الأمكنة والإمساك بصدى الرّاحلين، وذلك بغية بلورتها داخل بنيات معقدة ومتشابكة من المدلولات والإدراكات. كذلك توظف آذان الصلاة وتراتيل المنشدين في فيديو "غمرة" (2018)، وتبدو أطلال القصور والقصبات بالكاد مدفونة في الرّمل. وما أنت بمسمع من في القبور. تتحدث فيلمان عن زيارتها الأولى إلى المغرب قائلة: "لقد جئتُ الى فاس أوّل مرة للمشاركة في مهرجانها للموسيقى الروحية، وقد أحسست بنفسي مثل سمكة في بحر: فعلاقة المغاربة بك تجعلك تعيد النظر إلى نفسك، لأنها علاقة لا تقوم على المشاهدة بقدر ما تنبني على المحادثة. هذا الشغف بالحديث هو ما سحرني في فاس". على هذا النحو، تعيد فيلمان لثقافة السّماع والقول أولويّتها في تراتبية الوساطة المعرفية وتجعل منها أحاديث تدركها العين دون مسخها إلى مواضيع للفرجة الفجّة.
تصير فاس، في نظري، الموضع الذي طوّرت فيلمان فيه نظريتها عن الزرقة داخل الفضاء المغربي: فاللون الأزرق الذي هو لون الموت في ثقافات غربية عديدة، يكون في فاس، إلى جانب الأخضر، علامة الامتداد والقداسة والحياة التي تملأ الحدائق وتزيّن أبواب المدينة ونقوشها. الدخول أزرق والخروج أخضر. بيد أنّ فيلمان لا تكتفي بالبقاء في زرقة فاس وخضرتها، بل تتلوّن وتغيّر جلدها؛ ترسم رحلتها إلى أقاصي الجنوب، نحو مرّاكش، وإلى ما بعدها. في طريق النزول من فاس إلى مراكش، عند المنحدرات الملتوية والتلال الهابطة، يتبدّل لون الأرض وشكلها تدريجياً. وكلما ابتعدنا عن الشمال تحققت نظرية فيلمان مع انبعاث الإنسان الأزرق في الصحراء: إنّ هذا الإنسان الصحراوي الزاهد في واحة تيغمرت شبيه بالحطّاب الألماني السائر على الطرق التي لا تُفضي (Holzwege) داخل الغابة السوداء، فكلاهما يبتكر سبله الخاصة ويتعقّبها، وحينما يتعب، وقد يضيع، فإنه يوقد الحطب ويتأمل فجر السّماء المقمرة لينجو.
حيثما تحمرُّ التربة
التقينا، فيلمان وأنا، أثناء مشاركتي في تحضير معرضها المعنون بـ"برّانية الداخل" (مرّاكش، 2018). عمدت فيلمان في هذا المعرض على بلبلة الحواس عبر خلق معجم صوتي مربك، ترافقه تموّجات حمراءُ وأرجوانيّة على رقعة ثوبشفّاف. كما وظّفت مئات الطواجين، وهي أطباق مغربية فخارية، قامت بتكديسها عند فتحات النوافذ ترميزاً على الحدود بين الخاص والعام، الفردي والجمعي، والحميمي والمشترك. هذا التوظيف للفخار هو أيضاً احتفاء بلعبة الأيادي ومسرحتها للطبيعة والعيش. تقول فيلمان: "إنّ العمل اليدوي أمر فاتن، وهو عالم يبهرني لدى المغاربة، عالم صرنا نفتقد إليه في أوروبا والغرب بشكل عام. فنحن الآن في تحول ما بعد رأسمالي ولا نعرف إلى أين نذهب". عبر ترتيب هذه العناصر في الفضاء، أزق-أحمر-غُمرة-ظل، تعيد فيلمان تشكيل شبكة كثيفة من المراجع، فتتراكم المعاني على السطح وتتداخل الألوان والأصوات، وتشتبك حركية الزمن والفضاء في مشهدية مبهرة نجدها كذلك في أعمال فيلمان الأكثر تقنية، مثل أوبرا "آليس في بلاد العجائب" (2008) التي أشرفت على إدارة تصويرها.
لا تخفي فيلمان، بعيداً من كليشيهات الاستشراق، إعجابها بالصرامة الجمالية والاتساق الموسيقي الذي يصنعه التجاوب بين المُرتلين والمنشدين في مساجد المغرب. تقول: "لديّ حميمية كبيرة مع الميتافيزيقا (...) وفي الإسلام، كما في ديانات الهند والصين، تنمحي الأنا من دون أن يندثر الفرد داخل الحشد". كذلك ترى الفنانة في سقوط جدار برلين، بداية ضياع عدد من القيم الإنسانية، فقد كانت الشيوعية تحافظ بشكل من الأشكال على اتزان مجتمعيّ وأخلاقيّ اندثر الآن، حسب قولها. وواحدة من تلك القيم هي قيمة اللقاء: لقاء الأصدقاء، العشاء مع العائلة، الهرولة نحو الآخر، إلخ. هكذا، بالنسبة إلى فيلمان، يصير المشي إلى الصحراء عملية تحرّرية وبحثاً استقصائياً وانغماسياً في سرديات وقيم الآخرين. إلى جانب العناصر الأساسية المكونة لمعرضها "برّانية الداخل"، أضافت فيلمان عرض الفيلم المغربي القصير "عودة إلى أكادير" (1967) لمحمد عفيفي، وذلك حتى تدخل معه في حوار تحتيّ عن العمارة وخرائبها، وعمّا يمكننا استرداده بعد الدمار، فالفيلم يستعرض مشاهد المدينة بعد الزلزال الذي أتى عليها عام 1960.
لقد بحثت فيلمان خلال رحلتها هذه عن الإمساك بخيوط روايات الرّحل ومشت على آثار القوافل التجارية القادمة من تمبكتو إلى فاس، وفتشت عن ذخرانها في القيساريات والأسواق. تضيف فيلمان: "عندما تشتري الأغراض في السوق، فإن كل شيء تشتريه هو عنصر منسوج داخل حكاية، وسكون الصحراء هو أصل كل حكاية وقصة". قبل عودتها إلى ألمانيا، أخبرتني إيلين أنها صلَّت في مجسد الحسن الثاني بكازابلانكا. ركعت وسجدت، قامت وقعدت. قامت بكل الحركات التعبدية، صامتة ومندهشة، رفقة الصغيرة أوريليا التي تستعيد باستمرار انبهارها بزواريب المدينة المغربية رفقة والدتها؛ فقد دخلتا بلاد العجائب، عالقتين في قصة لا تنتهي، قصّة لم تخرُجا منها إلى الآن. أمّا الخلاء فواحد وشاسع، وطريق الزحف أوثق.