تولكين "سيد الخواتم": الدراما ضد الفانتازيا

شادي لويس

الجمعة 2019/06/14
"في الفن البشري، الفانتازيا هي شيء ينبغي تركه للكلمات، للأدب الحقيقي... الدراما معادية بشكل طبيعي للفانتازيا. فحتى في أبسط صورها، بالكاد تنجح الفانتازيا في قالب الدراما، ولو قُدمت كما ينبغي، بالصوت والصورة" (القصص الخرافية، تولكين) 

اكتفى صاحب "سيد الخواتم"، الكاتب الإنكليزي، جون. ر. تولكين، بالكلمات (وبعض الرسوم أيضاً في الحقيقة). فالفانتازيا، كما رآها، لا مكان لها خارج الأدب، وحين تبنت هوليوود بعضاً من أعماله في حياته، فإنه تابع الأمر بكثير من الألم والاستياء، أو على الأقل هذا ما كتبه في مراسلاته، فالدراما مفسدة للفانتازيا، لكن ماذا عن السيرة الذاتية، ماذا تفعل بها الدراما؟

يتتبع فيلم "تولكين" (2019)، السيرة الذاتية لرائد أدب الفانتازيا الحديث، مركزاً على الفترة المبكرة من حياته، منذ الطفولة حتى مشاركته في معارك الحرب العالمية الأولى في سن الرابعة والعشرين. يلتزم مخرج الفيلم، دوم كاروكوسكي، بالحقائق، أو على الأقل هذا ما يبدو للوهلة الأولى. فالأسرة ترجع إلى إنكلترا، بعد وفاة الأب في جنوب أفريقيا، وسرعان ما تتوفى الأم، ويتولى قس كاثوليكي، رعاية تولكين الطفل وأخيه الأصغر سناً. يتعرض الفيلم لتيمات الصداقة والحب والإلهام الفني، في سردية هادئة تصل إلى ذروتها الحادة والتراجيدية باندلاع الحرب، والتي يفقد فيها تولكين جميع أصدقائه المقربين باستثناء واحد منهم.

لكن أحداث الفيلم التي تمزج بين المعاناة والشغف، وإن كانت تعتمد على وقائع حقيقية، فهي ليست محايدة بالتأكيد أو بريئة، وهذا ما جعل تولكين متوجساً دائماً من الدراما، من الإحالات المقصودة فيها والترميز والمحتوى الأخلاقي الواعي والتأويل. فالفيلم يقدم لنا مَشاهد، تربط بصرياً بين الحرب التي خاضها تولكين، وبين أعماله الإبداعية، فأعمدة الدخان التي تتصاعد من الانفجارات تتحول أمامنا إلى تنانين ضخمة، والحُفر المملؤة بالجثث في المعارك على الجبهة الفرنسية تبدو كمخطط مبدئي لمَشاهد في "سيد الخواتم". فهل كانت عوالم تولكين الفانتازية ترميزات للعالم الذي عاش فيه؟ للحرب؟ وهل كان واقعه الخرافي والمتخيل مهرباً من المعاناة؟


يستسلم الفيلم لغواية الدراما، ويلجأ إلى الإجابة السهلة بنعم على تلك الأسئلة، ليقدم عرضاً شبه دقيق لحياة بطله، لكنه صورة مشوهة تماماً لعمله الأدبي. فتولكين، مع اعترافه بتأثير تجربة الحرب فيه، لطالما رفض بشكل قاطع تأويلات أعماله التي ربطتها بها، بل وأي تأويلات على الإطلاق، تستدعى فكرة الترميز أو التجريد. فالفانتازيا كما كتب عنها، هي عوالم لها قواعدها وقوانينها الخاصة والمتماسكة، ويجب أن تكون مكتفية بذاتها ومستقلة عن عالمنا الحقيقي.

ولسبب غير واضح، لا يتناول الفيلم الجانب الروحي من حياة بطله، والذي كان كاثوليكياً شديد الإيمان، ولذلك استحق صنّاع الفيلم النقد اللاذع من النقاد. فإيمان تولكين لم يكن فقط جانباً مهماً من سيرته الذاتية يستدعي التسجيل، بل كان أيضاً محور عمله الأدبي. فالميثولوجيا المسيحية أدت دوراً مركزياً في إلهام أعماله، والأهم، في إنتاج تنظيراته عن طبيعة الفانتازيا وأدبها الحديث. فالأسطورة، كما يقول، هي الصدى الإلهي للحقيقة، وفي الميلاد العذراوي للمسيح، تصل الأسطورة إلى قمتها، يداً بيد مع معجزة الحقيقة وانكشافها. تحتوي الأساطير الموروثة، بكل أشكالها، على حقائق روحية ووجودية، فيما يساعدنا العمل الإبداعي لخلق الأدب الفانتازي، في كشف تلك الحقائق وسردها. هكذا، الفانتازيا لدى تولكين، هي استعلان روحي، لا يرمز إلى شيء خارجه، ولا يحيل ولا يجرد، بل يكشف المطلق.

ينتهي الفيلم بمشهد يطلب فيه تولكين من أطفاله أن يستمعوا إلى قصة كتَبها لهم، وحين يسألونه عما تدور حوله القصة، يخبرهم بأنها عن رحلة، رحلة عن السعي. ويفهم المشاهدون بسهولة بأنه يعني عمله الأول، "هوبيت"، والمعروف أيضاً بعنوانه الفرعي "هناك والعودة مرة أخرى"، ليختتم فيلم "تولكين" أحداثه بإحالة أخرى مباشرة، صحيحة ودقيقة، لكن بلا بمساحة كافية للخيال. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024