صاحب "Best Seller": أدب الأكثر مبيعًا ليس ظاهرة ليزول

أحمد شوقي علي

السبت 2019/05/11
دعنا لا نتبنى وجهة نظر رصينة، تقسم الأشياء إلى أبيض وأسود ورمادي، ونقول إن الأدب، فقط، جيد ورديء، لنحكم المسألة أكثر. وما دامت اللوائح العربية للكتب الأكثر مبيعًا، تخلو في الأغلب من أسماء مكرسة، وأعمال مكرسة كذلك، فما يتصدرها هي الأعمال الخفيفة فقط. "البيست سيلر"، في هذه الحالة، ونحن جادون في تقسيم الأشياء إلى خير وشر، سيبدو مقابلاً للخفة، وهكذا ننهي القصة سريعًا، ونخلص حتميًا، وبصورة لا رجعة فيها، إلى أن "The Best Seller" مصطلح سيء السمعة.

لكن طريقاً آخر، يطرحه خطاب يدعي نظرة حيادية، مبسطة، منحازة إلى الجماهير، تسخر من الأدب الرفيع، بوصفه مصطلحاً متكلساً آخر، وتثمن كل محاولة تعيد الجمهور من جديد إلى القراءة (الجمهور في ذلك الخطاب يعاني متلازمة مرَضِية تسمى العودة للقراءة بعد انقطاع). وبالتالي فإن كل اسم خلت منه لوائح الأكثر مبيعًا، ما هو إلا قصير الذيل (حاقد في الأغلب)، متعال على القارئ الطيب العائد لتوه إلى القراءة، والذي ربما (من يعلم الغيب؟) سيقوده قدره الحتمي، يوماً ما، إلى قراءة ذلك المغرور، المتسرع في الأحكام، فقط، إن تحلى بقليل من الصبر لحين عودة الجمهور للقراءة، بكامل قوته.

ثمة صراع يثيره مصطلح "البيست سيلر"، كلما أطل برأسه في أي خطاب، وهو صراع هزلي يفتقد الى الجديّة، لأنه رُسخ على أساس افتراضات نظرية أحادية، لا ادعاءات. فثمة كتب تبيع نسخًا كثيرة فعلاً، لكن هل حركة البيع تلك، كافية لتدل على ازدهار القراءة وازدياد جمهورها، وهل يمكن الاستدلال بها كمؤشر على نمو وعي القراء أو انحطاطه؟ وما الذي يؤثر في رواج كتاب أكثر من آخر، أو في تسيّد نوع أدبي ما باعتباره رائجًا لدى جمهور القراء

يثير كتاب "Best Seller.. حكايات عن القراءة"، الصادر في القاهرة عن "الدار المصرية اللبنانية"، للصحافي المصري سامح فايز، تلك الأسئلة وما سبقها، من وجهتي نظر قد تبدوان هزليتين في تعاطيهما مع أدب الأكثر مبيعًا. ويحاول عبر رصد لآراء بعض الكتّاب الذين تصدرت أعمالهم لوائح مبيعات الأدب، الاقتراب من عوالمهم الفنية واستعراض تصوراتهم حول ما ينتجونه من نصوص، كما يتصدى لتفنيد عدد من الادعاءات حول أرقام الطبعات الصادرة لكتاب ما، وعلاقة الجمهور بالقراءة وحجم صناعة النشر عربيًا وغيرها. ويرصد كذلك ظواهر مرتبطة بمصطلح الأكثر مبيعًا، مثل توجّه تيارات محافظة إلى الأدب، وظهور ما يسمى بأدب المنتقبات، وغيرهما. لكن لغة فايز تبدو، رغم ذلك، مترددة بين وجهتي النظر المؤيدة والمناهضة لأدب النوع الذي بات يتصدر إنتاجه تفضيلات القراء العرب، وكأنها منحازة إلى وجهتي النظر كلتيهما، وليست مشتبكة معهما من أجل الوصول لرصد أعمق لبعض القضايا التي تعرض لها.

وفي محاولة للوقوف على صورة أدق عن العلاقات، بين الأكثر مبيعًا، وأدب النوع، والظواهر الأدبية الجديدة والحركة النقدية، كان لـ"المدن" مع سامح فايز، هذا الحوار: 

- في غياب إحصاء واضح لعدد نسخ الطبعة الواحدة من أي عمل منشور، حسبما أشرت في كتابك، كيف يمكن لمصطلح "البيست سيلر" أن يكون فعالاً بتلك الدرجة؟

* نسبة كبيرة من قوائم البيست سيلر وهمية، استغلها صنّاع الكتاب لترويج زائف لإصداراتهم، وصناعة رد فعل وهمي يشعر الكاتب على غير الحقيقة أنه حقق مبيعات كثيرة، يؤكد ذلك أنه لا توجد أي بيانات، سواء في مصر أو المنطقة العربية، تشير لعدد مبيعات الكتب، ولا توجد قواعد بيانات رسمية أو مستقلة في ما يخص صناعة النشر في المنطقة العربية. ذلك لا يمنع أن هناك بالفعل أدباء يمكن إدراج أعمالهم في فئة البيست سيلر، لارتفاع مبيعاتها، وذلك يمكن قياسه من خلال ردود أفعال القراء عبر منصات التواصل الإجتماعي، وبالأخص موقع "غود ريدز"، موقع القراءة الأشهر في العالم. ولا سبب واضحاً لاختفاء أي قواعد وبيانات خاصة بصناعة النشر في المنطقة العربية.

- بحسب ما أدركته من إحصاءات "قليلة" في كتابك، فإن ثمة ارتفاعاً كبيراً لمعدل قراءة الأدب، بعد ثورات الربيع العربي، خصوصًا أدب النوع. فيكف ترى أسباب تلك الزيادة؟ وكيف سقطت كتب التنمية البشرية من اهتمامات الشباب، وقد كانت في قمة أولوياتهم القرائية قبل ذلك؟

* كسرت ثورات الربيع العربي، العديد من الحواجز النفسية، وأعطت الأمل لشباب كان قد ضربه اليأس من استحالة التغيير نحو الحريات والديموقراطية، المسألة التي دفعتهم تحديداً إلى القراءة والمعرفة على اعتبار أنها أسلحة يحتاج إليها في عملية التطوير إلى الأفضل. تتضح الرؤية بشكل أكبر، مع تراجع نسبة مبيعات كتب التنمية البشرية بعد 2011، والسبب من وجهة نظري عائد إلى أن تلك النوعية من الكتب كانت بمثابة مسكنات للشباب تعوض فشلهم في إدراك التغيير قبل الثورة، وعندما أصبح الحلم حقيقة، لم يعد لتلك الكتابات أهمية، فقد حدث ما انتظره الشباب بالفعل، الأمر نفسه قد يفسر شغفهم الكبير بقراءة أدب الرعب. فبحسب ما قاله الدكتور شاكر عبد الحميد، وزير الثقافة المصري الأسبق، في حوار صحافي مع "جريدة القاهرة"، إن ارتفاع معدلات قراءة أدب الرعب بين الشباب يعد بمثابة هروب من الواقع الدموي الذي شهدته المنطقة العربية إلى واقع متخيل أكثر دموية يخفف من حدة الواقع الذي يعيشه الشباب.

- على ذكر"الرعب"، استوقفتني، بينما أطالع رصدك لانشغال الكتاب الشباب بذلك الأدب، تلك الجملة: "كانت هناك استثناءات من القاعدة، وخرج من رحم هذا الجيل كتّاب شباب لهم ثقافاتهم وقراءاتهم المتنوعة ولهم إصداراتهم التي تشبه المعتاد، لكن الأصل العام لبقية الشباب هو خروجهم من رحم ثقافة مغايرة"، فما هو المعتاد في الأدب، وما "الثقافة المغايرة"، ولماذا تتخذ الأخيرة في نصك سمة سلبية؟

* المعتاد في الأدب هنا، أقصد به الحركة التي تمر بها صناعة الكتاب وانتشاره في أوساط المثقفين. بمعنى أكثر وضوحا أنه قديماً، كانت هناك طرق محددة لانتشار الكاتب، مثل أن ينشر كتابه في دار نشر يدعمها المثقف مثلاً، أو تقديم الكاتب في المجلات النقدية الشهيرة وتناول أعماله بالنقد والتحليل من دوائر نقدية معينة، غير أن تلك الطرق المعتادة أصبحت غير صالحة مع انتشار ثقافة السوشيال ميديا، وسهولة التواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي التي كسرت كل الحواجز والحدود بين الكاتب والقارئ. والثقافة المغايرة هنا أقصد بها عالماً ثقافياً موازياً، خرج من رحم جديد تماماً على المشهد الثقافي الكلاسيكي، فلا أبوة ثقافية هنا لناقد أو صحافي، بل الداعم الوحيد للكاتب هي السوشيال ميديا، وسيلة انتشاره الأولى والأخيرة.

- إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يهتم كتّاب "الأكثر مبيعًا" بالاعتراف النقدي بالمؤسسة الثقافية الكلاسيكية؟

* المنظومة الثقافية الكلاسيكية هي ذلك العالم المسيطر على عملية النشر وصناعة الكتاب والتبشير بالكتابات الجديدة، غير أنها تعمل بطرق قديمة عفا عليها الزمن. ورغم ذلك، لا يزال المثقف الكلاسيكي مسيطراً على عملية التبشير بالأدباء الجديد والتقديم لهم والاحتفاء بهم. وكتّاب البيست سيلر في حاجة إلى ذلك، كنوع من الاعتراف بهم، وأظن أن مسألة الاعتراف تلك إلى زوال، مع الصعود الكبير لعالم السوشيال ميديا، الذي أصبح المبشر الأكبر بكل جديد.

بعض الكتّاب ممن استعنت بآرائهم خلال فصول الكتاب، يبدون وكأن لديهم خلطاً بين ما يسمى الأدب الرفيع وأدب النوع. ترى هل غياب التأصيل لذلك المفهوم في ظل عدم وجود صناعة نشر وسوق حقيقيين، هو السبب في تلك الأزمة؛ أزمة الرفض والبحث عن الاعتراف.

هناك غياب للعديد من المفاهيم داخل عالم كتابات الشباب التي تستخدم السوشيال ميديا كوسيط بينها وبين القارئ، أهمها أن هؤلاء الكتّاب ليسوا امتداداً للأجيال التي سبقتهم، بما حققوه من نجاحات في عالم الأدب، وتطور في الأدب وأنواعه. بالتالي بدأ هؤلاء الشباب من الصفر تقريباً، لخلق عالمهم الموازي، وربما ذلك ما يفسر لماذا يبحث هؤلاء الأدباء عن اعتراف النقاد بكتاباتهم.

- ولماذا يلجأ هؤلاء الكتّاب إلى الواقع المعاش لنشر أعمالهم، رغم أنهم جميعًا جاؤوا من خلفية الواقع الافتراضي الذي يتيح الوصول إلى شريحة أكبر بكثير ممن يستهدفون الوصول إليها عبر الورق. لماذا يمثل النشر الورقي أهمية لمشروعهم!؟

* النشر الورقي له مذاق خاص، علماً أن غالبية الشباب ممن اخترقوا عملية النشر خاضوا المسألة في البداية عبر النشر الإلكتروني، منهم من نشر أكثر من رواية بشكل رقمي، ودفعتهم سهولة عملية النشر مؤخراً إلى خوض غمار النشر الورقي، الذي يعطي مزايا لا يحققها النشر الرقمي، مثل التواصل مع المثقف الكلاسيكي الغائب عن شبكات الإنترنت، أو الحصول على الجوائز الأدبية التي تشترط النشر الورقي، أو الشعور المادي بالكتاب الملموس كسبيل للنجاح.
بمناسبة الجوائز.. أستغرب أن يشتكي كتّاب الأكثر مبيعًا من "تجاهل المؤسسة"، رغم فوز كاتبين بارزين، هما أحمد مراد وأشرف العشماوي، بجوائز ترعاها الدولة (الأول فاز بجائزة الدولة في التفوق والثاني بجائزة أفضل رواية في معرض القاهرة للكتاب)... أم أن لذلك علاقة بانتمائهم للمؤسسة الرسمية، حيث إن مراد مصور في مؤسسة رئاسة الجمهورية والثاني قاض؟

فوز بعض الأدباء الأكثر مبيعاً بالجوائز هو استثناء على القاعدة، ولا يعد دليلاً على شيء، سوى أن هناك عملية تمدد لتلك الظاهرة، وأنها لن تتلاشى كما يتوهم البعض، ولا أعتقد أن الجوائز التي حصل عليها مراد والعشماوي لها علاقة بصفة كل منهم الوظيفية، لكن أعتبر ذلك مغازلة من النقّاد لذلك العالم، في محاولة لاستيعابه وفهمه.

- ثمة ما يوحي بأن هناك دائمًا نوعين من الكُتَّابِ "نحن" و"هم"، كما أن ثمة إشارات مستمرة في الكتاب إلى "الأدباء الشباب" من دون توصيف واضح لمن تضعهم في خانة الكتابة الشابة.

* أستخدم عبارة الكتاب الشباب كمعنى اصطلاحي للشباب الذي اخترقوا حاجز عالم الأدب من طريق منصات التواصل الإجتماعي، في الفترات العمرية بين 15 و40 سنة، وبالفعل هناك تأكيد داخل الكتاب على نوعين من الكتّاب، "نحن" و"هم"، لأن الجانبين دخلا عالم الأدب من رحم مختلف تماماً، سواء المثقف الكلاسيكي الذي لا يزال يعتمد على طرق قديمة في التواصل مع عملية صناعة النشر، والجيل الجديد المتأثر بسطوة شبكات المعلومات.

- يفرد الكتاب جزءًا لظاهرة الأدب الإسلامي وأدب المنتقبات، وحيث إنك تشير في بعض المواضع إلى أن المسألة ليست سياسية صرفة، فهل يفسر ظهورهم الإطار العام الذي يجمعهم بكتاب النوع، وهو أن كثيراً من الأشخاص بدأوا بعد الربيع العربي يشعرون برغبة جارفة في التعبير عن أنفسهم.

* الأدب الإسلامي وكتابات المنتقبات، رغم تواجدها منذ سنوات، تمددت وانتشرت بشكل كبير عقب ثورات الربيع العربي. ولانتشار هذه الكتابات التفسير الخاص نفسه بارتفاع معدلات القراءة والنشر خلال السنوات الأخيرة، لكن هناك تفسيراً سياسياً أيضاً متعلقاً بجماعات الإسلام السياسي التي تسعى لأسلمة المعاني المسيطرة على الشباب، وبينها الأدب، وانتشار قراء الرواية خصوصاً والأدب بشكل عام، ويؤيد ذلك ظهور مصطلح الأدب الإسلامي على يد مؤسس الجماعة الإسلامية أبو الحسن الندوي في الثمانينات من القرن الماضي، باعتبار أن الأدب أحد الأسلحة الناعمة المستخدمة فى الحرب الآن.

- يغفل الكتاب الفترة ما بين 2002 و2011، على الرغم من إشارتك لرواية "أن تكون عباس العبد" وهي رواية مؤسسة لجيل قرائي ومعها "عمارة يعقوبيان"، في تلك الفترة ازدهرت أشكال كتابية كثيرة وأسماء كثيرة أيضًا، لم يستمر منهم إلا القليل فهل ذلك مصير الموجة الحالية أيضًا؟

* بالفعل يغفل الكتاب تلك الفترة إلا في مراحل معينة، والسبب أن الكتاب يهتم بشكل أكبر بأثر ثورات الربيع العربي فى عملية صناعة الكتاب والنشر وتوجهات القراءة، علماً بأن هناك إشارات داخل الكتاب لتلك الفترة في بعض المواضع، المتعلقة برصد صعود الكتّاب الشباب وانتقالهم من النشر الرقمي إلى النشر الورقي، ولا أعتقد أن أدباء ذلك العالم مجرد ظاهرة ستنتهي، بل هي مستمرة، وسيصل بها الحال خلال السنوات المقبلة إلى الاستحواذ على العملية الأدبية بشكل عام، بعد تنحية المثقف الكلاسيكي المسيطر على عملية الاعتراف من عدمه بالكتابات الجديدة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024