"السرقة من السراسنة":كيف شكّلت العمارة السورية وجه أوروبا؟

شادي لويس

السبت 2020/09/12
في خطاب إلي أسقف روشيستر، يكتب المعماري الإنكليزي، كريستوفر رين، عن الطراز المعماري لكنيسة ويسمنيستر: "أطلقوا عليه الطراز القوطي القديم، وإن كانت تسميته الصحيحة الطراز العربي أو السراساني أو المورسكي". قبل ثلاثة قرون، أقر رين بتأثير الهندسة السراسانية (أي الإسلامية) في العمارة القوطية، المميزة لمدن شمال أوروبا. فضل هو نفسه المعمار الباروكي الكلاسيكي، لكن هذا لم يمنعه من الاستعانة بعناصر قوطية في تصميمه لكنيسة المسيح في أوكسفورد أو من استخدام تقنيات عثمانية في تصميم وتنفيذ قبة كاتدرائية القديس بولس في لندن. 


تعتمد الكاتبة والمستعربة، ديانا دارك، على آراء رين، لتأكيد أطروحات كتابها "السرقة من السراسنة" (الصادر بالإنكليزية الشهر الماضي)، وتوسع ما تراه تأثيراً إسلامياً ليتجاوز الطراز القوطي، فالأقواس المدببة والأسقف المضلعة والمنارات والأبراج المزدوجة والشبابيك وردية الشكل وأنواع بعينها من القباب والزجاج الملون. كل هذا تنسبه دارك إلى التأثير الإسلامي، الذي انتقل إلى أوروبا عبر الأندلس والتجارة مع المدن الإيطالية بل وحتى أثناء الحملات الصليبية على المشرق. ولتأكيد فكرتها، تضرب دارك العديد من المقارنات التفصيلية. فقبة كاتدرائية فلورنسا، واحدة من أوائل الإنجازات المعمارية لعصر النهضة مؤسسة على تقنيات هندسية استخدمت في تشييد مساجد القاهرة، وكذا كتابات ابن الهيثم الرياضية. وفي القرن السادس عشر، يبدو أن شهرة المعماري العثماني، معمار سنان، قد بلغت حداً، أصبح معه تصميمه للمسجد السليماني مرجعاً لمايكل أنجلو في تشييد كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان. أما كنيسة العائلة المقدسة في برشلونة، المبنية في نهاية القرن التاسع عشر، فمصممها أنطوني غاودي، يقرّ باستلهامه للعمارة الإسلامية في الأندلس.  


(كنيسة قلب لوزة في إدلب-سوريا، ألهمت تصميم كاتدرائية نوتردام)

لا يدعي الكتاب بأن فرضيته جديدة، لكن كاتبته تضع نصها في مواجهة استخدام اليمين العنصري للعمارة الأوروبية كأيقونة للتفوق الأبيض ومثال للتراث الغربي الذي يهدده المهاجرين والإسلام. تصل تلك المفارقة إلى حدها الأقصى، مع حريق كنيسة نوتردام في باريس، والتي اعتبرتْ نموذجاً نقياً لما هو "فرنسي"، بل وسرت شائعات في البداية تتهم "عرباً" بإحراقها. ولا تكتفي دارك بمجرد الإشارة إلى الطراز القوطي "السراساني" للكاتدرائية، بل تربطه بشكل مباشر بطرز العمارة السورية، والتي تعود أصولها إلى منتصف القرن الخامس الميلادي، في كنيسة "قلب لوزة" غرب إدلب. 


دارك التي قضت وقتاً طويلاً في سوريا، وكتبت عنها كثيراً، وتمتلك في عاصمتها بيتاً منذ العام 2005، تمنح للعمارة السورية دوراً مركزياً في تشكيل وجه أوروبا، وتذهب في بعض الأحيان إلى مقارنات غير مقنعة. فهي، على سبيل المثال، ترى في برج "بيغ بن" اللندني تقليداً لمنارة جامع حلب الكبير. لكن تلك المبالغات المقصودة من جهة الكاتبة، تضعنا أمام مفارقة أخرى، أكثر مأساوية، بالنظر إلى الدمار الواسع الذي لحق بسوريا. فالكتاب في جزء كبير منه يبدو كرثاء صامت للعمارة السورية أو حنين لبلد لم يعد الوصول إليه ممكناً.


(كاتدرائية نوتردام في باريس)

"في الكاتدرائيات القوطية الشمالية، تساهم الأقواس المقببة والأقواس المدببة والأقواس المتشابكة في المستوى العلوي في فرض شعور بالهيراركية المكانية، تقسيم الفراغ إلى مناطق منفصلة يستخدمها أشخاص معينون لأغراض محددة، بينما في السياق الإسلامي كان الأمر على النقيض... ففي جامع قرطبة كان الهدف هو إنشاء شبكة عضوية، رؤية معقدة للانهائي، بغض النظر عن موقع المشاهد في قاعة الصلاة".

في مقاطع مثل تلك، تبدو الكاتبة راغبة في الإيحاء بتفوق ما للعمارة الإسلامية، فحتى حين تكون العناصر المعمارية واحدة، فإن تفسيرها يكون لصالح المساواة الأندلسية في مقابل التراتبية القوطية. لكن، ومع هذا، فإن الكتاب في معظمه لا يذهب إلى عقد مقارنات تفضيلية بين الأوروبي والإسلامي، بل على العكس، فالكاتبة تقر بأن التأثير لم يكن في اتجاه واحد، وكذا فإن ما تطلق عليه "سراساني" ليس بالضرورة إسلامياً، بل في أحيان كثيرة، عمارة كنيسة سريانية أو بيزنطية. فتلك "السرقة" التي يشير إليها عنوان الكتاب، ليست بسرقة على الإطلاق، بل هو تراث مشترك، نتاج حركة دائمة للجماليات والأفكار والبشر، ودليل مأساة نراها تتحقق أمام عيوننا اليوم، من دون أن نجد أنفسنا قادرين على فعل الكثير، سوى تأمل ذكراها في عمارة مدن أخرى. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024