بيروت الحديدية.... وجه من وجوه مدينة متقلّبة ومُستعرة

محمد حجيري

السبت 2020/05/02
في كتابه "تاريخ بيروت"، اختار الراحل سمير قصير أن يكتب عن بيروت العثمانية وبيروت الفرنسية وبيروت الفينيقية وبيروت البيروتية وبيروت الكوزمبوليتية... والكتاب سردية مكثفة أشبه بكارت بوستال ثقافي لمراحل من تحولات بيروت وتقلباتها. روى قصير، قصة المدينة - التي اغتيل فيها لاحقاً- منذ نشأتها، من الأثريات المُكتَشفة، إلى صراع اليمين واليسار في زمن "الحرب الباردة"، مروراً بالصحافة وألوانها وملكة جمال الكون جورجينا رزق في فندق السان جورج وطريقة استقبالها، وقد اختصرت بعضاً من وجوه بيروت.

وفي كتابه "أهواء بيروت ومسارحها"، يتناول الباحث وضاح شرارة "حياة" بعض المساجد في بيروت ودورها الاجتماعي في الطريق الجديدة والبسطا وغيرهما، ويقدم بحثاً عن مُطلَّقات حي اللجا في وما تحمله هذه الظاهرة من نزوع نحو الفردية لدى النساء في العقود الأخيرة. كذلك يتضمن الكتاب، فصلاً طويلاً عن المشي والمشّائين والمتنزهين على كورنيش المنارة البحري (ستذكر الأبحاث يوماً كيف أقفر الكورنيش وبدا خاوياً وشبحياً في زمن الكورونا)، ولا يغفل التأمل الفكري في عصر "بيروت الذهبي" وارتياد المقاهي في الستينيات، والتبرج النسائي وصالونات تصفيف الشعر التي دخلت مختلف أحياء المدينة، الواسعة والضيقة، والتظاهرات والاعتصامات منذ 14 فبراير2005، يوم اغتيال رفيق الحريري... وكلها وجوه من وجوه المدينة وتحولاتها وتقلباتها، سواء في السياسة أو الاجتماع أو الموضة أو الثقافة أو الأمكنة العامة كصالات السينما والمقاهي...والتقلبات التي تعيشها بيروت أحياناً تكون تحديثية وتطويرية، وأحياناً أخرى تكون طارئة ونافرة، مرة تكون ثمرتها الانفتاح والفردية والتعليم، ومرات تتنج حمى العصبيات..

والحال أن من "غرائب" بيروت اليومية وحُسنها، وربما بؤسها، أنها تعيش "حياتها" موجات متقلّبة متناقضة، سريعة التحوّل، لا شيء فيها يبقى على حاله، تتفاعل بسهولة وبسرعة مع أي موضة جديدة، تتلقف تبعات الغرب والشرق، من نيويورك الى طهران، ومن اليمن الى أوكرانيا، وتستقبل الأفكار والإيديولوجيات والظواهر. مرة تكون حاضرة فكرية لأهم ظواهر الحداثة، وساعات تكون مسرحاً للقتل وأشد أنواع الاغتيالات قسوة، وهي في السياسة كما في العمران كما في الثقافة، كثيرة التناقض والوضوح والغموض والتشعبات...

بعد اتفاق الطائف، وعودة السلام الهش والمفتعل والمركب، كان السؤال عن بيروت "هانوي أم هونغ كونغ".. في إطار الصراع الباطني والظاهري بين مشروع "إعادة الإعمار"، ومشروع "المقاومة" أو السلاح في مواجهة اسرائيل... في هذه المرحلة المتناقصة، كانت بيروت على وقع نساء النقاب والتشادور، ونساء يشبهن ممثلات هوليوود، كما لاحظ الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا خلال زيارته كورنيش المنارة. فالمحجبات وإسلاميات الهوى يتجولن الى جانب نساء يتطاير شعرهن في الهواء. كان المشهد يعبّر عن المدينة وهوياتها، بل يعبّر عن بلد يعيش في خضم "الهويات القاتلة"، بحسب أمين معلوف، والنساء والموضة، هما انعكاس لواقع المدينة، ولا يختلف الأمر مع العمارة والتصاميم الهندسية التي غزت المدينة. فعدا القديم وقِدمه وناسه، صرنا أمام موجة من الأبراج الزجاجية تتسابق لرؤية البحر وحجب السماء، إلى درجة بات يمكننا وصف بيروت بالمدينة العمودية المنتصبة، وكل عمارة عمودية أشبه بخازوق بصري، وصار السؤال: هل بيروت تقلّد دبي؟ أيضاً هناك موجة المحال التجارية والمصارف التي يطغى على واجهاتها الزجاج، حتى من دون أي ركائز حديدية لاحتمالات ارتكاب جرم ما أو محاولة سرقة (أو احتمال غزوها بسيارة متهورة كما حصل أكثر من مرة)، والعابر على الرصيف يتأمل الموظفين الجالسين، كأنه معهم أو أنهم معه، أو كأنهم يجلسون على الرصيف وليسوا في فرع مصرفي، وهذه جوانب من وجوه بيروت وأنماطها الجديدة...

وخلال السنوات الأخيرة، كنت أشعر أن بيروت أركيلة كبيرة، بسبب انتشار الكم الهائل من مقاهي الأركيلة والتدخين في كل زاوية وشارع وحي وناحية، حتى على الطريق يصادف العابر دراجات نارية توزع أركيلة "ديلفري". أحد الشعراء كان يقول إن بيروت "مَعِدة ضخمة" بسبب الانتشار الضخم للمطاعم على أنواعها. طبعاً كان الشاعر يقصد هجاء ثقافة الأكل في إطار حبّه للقصائد والكتب والمناسبات الثقافية. صحافي أجنبي وصف بيروت بـ"نايت كلوب كبير"، وبزعمه أن نساء بيروت، يعشن حالة "سواريه" حتى وهنّ ذاهبات لشراء ربطة البقدونس من محل الخضار. هكذا بيروت "أهواء"، على ما يكتب وضاح شرارة، و"أضواء" كما عنوَن شارلي شابلن أحد أفلامه. يزدهر شارع للسكارى والسهر (مونو، الجميزة، بدارو، الحمرا)، فتزدهر شوارع. تظهر مؤسسة ثقافية، فتتشعب مؤسسات مثلها، ومثلها المهرجانات الفنية والموسيقية والتجهيز والتصوير والأفلام... والترفيه والثقافة يتجاوران مع الأشباح الأمنية والبيارق الحزبية. فعدا مرحلة الأكل والدعة، هناك موجة الشبح الأمني. فبعد مرحلة الاغتيالات السياسية، تحولت بيروت الى مربعات أمنية، أسلاك شائكة، عوارض حديدية أجهزة كشف متفجرات. بعد الإرهاب والسيارات المفخخة والتظاهرات المطلبية، كنا أمام موجة جديدة من التدابير، حواجز خراسانية ضخمة حول مقرات حزبية أمنية وعسكرية وسياسية، وفي لحظة يشعر العابر أنها مدينة محتلة من أحزاب، بسبب كثرة الأعلام، أو تعيش حرب الشعارات بسبب انتشار الغرافيتي على جدرانها...

بعد انتفاضة 17 تشرين والاحتجاجات المتواصلة المستجدة، كانت بيروت أمام وجه جديد من وجوهها، ربما يكون الأبشع في مرحلة ما بعد الطائف. فهرباً من التكسير والحرق والتظاهرات والمولوتوف، لجأ بعض المصارف الى "حماية" الواجهات الزجاجية بألواح الحديد المصفح، بحيث تحولت شوارع مهفهفة إلى ما يشبه مستودعات كالحة ومقيتة وقاتمة، تدل على المأزق الذي وصلنا اليه... بيروت في حديدها، لا تدل على أنها مدينة مفتوحة وتستقبل كل شيء، بل توحي أنها أقرب إلى مدينة صناعية خاوية ومهجورة... تلك الواجهات الزجاجية التي كانت للمصارف تتغاوى فيها، وتغوي العابرين بالإعلانات عن فردوس القروض الميسرة أو قليلة الفوائد، لم تحتج الى لصوص من الخارج لاقتحامها، بل أتت أزمتها من قلب السياسات الحكومية والمصرفية الرعناء. كان اللعب بالمصاري والفوائد، على المكشوف وعلى الملأ وخلف واجهات شفافة، إلى أن وصلت الأمور لخواتيمها المريرة، فاستجدت المصارف ألواح الحديد المصفح، لتختبئ من نيران الغاضبين. طبعاً، حل أزمة الودائع في المصارف، لن يكون عند أصحاب القبضة الحديدية أو دعاة الضرب بيد من حديد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024