حربي وحروب الآخرين

طارق أبي سمرا

الأحد 2019/01/20

 

 "كنتُ أتربّى كمقاتلٍ، كما كلّ الذين في عمري أو أكبر أو أصغر منّي قليلاً. كنّا مقاتلين، لكن بلا أسلحة حقيقيّة. كانت تتغلغل في دمنا نار الحروب، مِن دون أنّ نُنفِّسها، أو نتحرّر منها" (ص 9).

لا يُمْكِنُنِي قراءة هذه الجُمَل الثلاث مِن كتاب الشاعر والصحافي فيديل سبيتي "لماذا تركْتَني في الثورة وحيداً؟"(*)، مِن دون أن يتملّكني حنينٌ إلى حربٍ أكاد لا أتذكَّرُها، وانتهت عام 1990 عندما كنت طفلاً في السابعة، بينما كان فيديل آنذاك – هو الذي أبصر النور عام 1977 - مراهقاً في الثالثة عشرة مِن عمره. لَسْتُ أدري ما إذا كان الحنينُ عينه يستحوذ أحياناً على فيديل. لكنني مثله هو ورفاقه، كنتُ وأترابي، أثناء أيام الاقتتال الأهلي، غالباً ما نلهو في غُرْفَةِ أحدنا أو الآخر بما سميناه وسوانا مِن الأطفال "لعبة الحرب". نحن من لم نُبصر قتيلاً إلّا على شاشة التلفزيون، كنا نتقمّص أدوارَ ميليشياويين دمويين وعُتاة، فنروح ننسج رواياتٍ عن معارك ملحميّة طاحنة، نَبْطُشُ فيها بأعدائنا الوهميّين، وبوحشيّةٍ نُعذِّب مَن تبقّى منهم حيّاً. وكنّا أيضاً مثل فيديل ورفاق لَهْوِه الحربيّ، "نتناوش على لعب دور القنّاص" (ص 78). ففي مُخيِّلتنا اليافعة الساذجة، ومُخيِّلة كثيرين مِن الكبار، كان القنّاصُ كائناً شبه أسطوري: عيناً تَرى ولا تُرى، بطلاً مِن صنفٍ غريب، لا يخوض معاركَ، بل يَتَرَفَّع عن معمعتها ووضاعتها، فينأى بنفسه في شقّةِ بنايةٍ شامخةٍ مهجورةٍ ليمارس كالصيّاد القتلَ في أنقى أشكالِه وأنبلِها: انتظارٌ وتربّصٌ لساعاتٍ طوال، تحديدُ الهدفِ، تصويبٌ، ثم ضغطٌ على الزناد. يكتب فيديل: "القنّاص جبّار الحرب الأهليّة اللبنانيّة الذي مِن أجله رُفِعت مئات المتاريس في الشوارع الطويلة والكثيرة" (ص 79).


***

 تراودني أحياناً فكرةٌ، حَدْسٌ مُبْهَمٌ، أو بالأحرى نوعٌ مِن نظريّة لا أدري مدى صوابها: كُثُرٌ مِمَّن عاشوا جزءاً مِن الحرب، وكانوا أصغر سنّاً مِن أن يُشاركوا في معاركها، يحنّون، مثل بعضِ الميليشياويين الذين أدمنوا القتال، إلى تلك الحقبة، فيحسدون آباءَهم المُحاربين والمناضلين القُدامى على كِتَابَتِهم ببنادقهم ورصاصهم ملحمة وطننا الدموية المجيدة، تلك التي دامت 15 سنة.


قد يكون الحسد والحنين هذان لا شعوريَّيْن لدى معظم المُصابين بهما. لكنني أذكر بوضوحٍ تامّ أحلامَ يقظتي التي لم تفارقني حتّى السابعة عشرة من عمري، أيّ طوال السنوات العشر التي أعقبت انتهاء الحرب. أحلام كنتُ أراني فيها مدجّجاً بالسلاح – رشّاشُ كلاشينكوف مُتدلٍّ مِن كتفي، مُسدَّسٌ على خاصرتي اليمنى، سكينٌ حربيّ على اليسرى، أمشاطُ ذخيرةٍ وقنابل يدويّةٌ (رمّانات) مُعلّقة كأوسمة على صدري – مُتزعِّما زُمرة ميليشياويين لا آبه لطائفتهم أو لأيٍّ مِن الأحزاب ينتمون، ومتبختراً في حيٍّ تَحدّ أزِقَّتَه القذرة سيّاراتٌ مُتفحِّمةٌ، وأكوامٌ شاهقةٌ مِن القمامة، وأبنيّةٌ هجرها معظم سُكّانها وأمست أطلالاً. وفي ذاك الحيّ المُتخيَّل مِن بيروت الشرقيّة أو الغربيّة لافرق، كنتُ الآمر الناهي، وكان مَن بَقِيَ فيه مِن أهله يهابني لجبروتي، ويجلّني لمروءتي وبسالتي. ذلك أنني كنتُ كائناً مِن نوعٍ عجيب، مزيجاً من بطل خيِّر ومقدام في فيلمٍ أميركي، وأزعر لبناني لا يردعه رادعٌ عن نهبٍ وقتلٍ واغتصاب. كنتُ أحرس المنطقة، وأصدّ بشراسةٍ غزوات مسلّحي التنظيم المُعادي، وأعبّ الفودكا والويسكي، وأدخّن الحشيش بشراهة، وأحقن نفسي يوميّاً بالهيروين، وأنكح ما طاب لي مِن النساء، لكن برضاهنّ.


***

اسْتَهْلَلْتُ مقالتي هذه باقتباسٍ مِن نَصِّ فيديل (وهو نوعٌ مِن السيرة الذاتية يروي فيه فصولاً مُتقطّعة مِن حياته أثناء الحرب وبعدها)، وكنت أنوي، بعد الاقتباس توّاً، مباشرة عرضٍ "تقليديّ" صحافيّ لمحتوى الكتاب. بَيْد أنّني وجدْتُني بغتةً أُسْهِب في الإستطراد، تاركاً فيديل وساعياً في استعادة نُتَفِ ذكريات وتهويمات خلّفتها فيّ الحرب. نُتَف بَهتَتْ إلى حدّ الزوال تقريباً مع مرور الزمن، لكن قراءتي كتاب فيديل أعادت إحياءَ شيءٍ منها. ذلك أنني كنتُ قد اطلعت على كمٍّ لا بأس به ممّا يُسمى "أدب الحرب اللبنانيّة": أدب كتبه عموماً مَن هم مِن جيل أبي، أي مَن عايشوا تلك الحرب عندما كانوا راشدين، أو بلغوا سنّ الرشد في أثنائها؛ لكننّي نادراً ما قرأتُ نصّاً يدور في فلك النزاع الأهلي كتبه أحدٌ "في عمري أو أكبر أو أصغر منّي قليلاً" (باستثناء كتاب فيديل، لا يخطر في بالي الآن سوى قصص مازن معروف القصيرة). وفي ظنّي أن تجربة هذَين الجيلَيْن مِن الكُتّاب تختلف جذرياً، وجوهَر هذا الإختلاف، إن أفرطتُ في تبسيطه، هو أن معظم الجيل الأكبر يشعر بالذنب لمشاركته في الحرب على نحوٍ أو آخر، بينما بعض الجيل الأصغر يشعر بالذنب لأن فرصة المُشاركة فيها لم تُتَح له.


*** 

أما أنا فطفيفٌ جدّاً فشعوري بالذنبِ الناتج عن الحرب ولا يستحقّ الذكر. فالحقّ أنني لم أرث مِن أبي سوى بعض قصص مُغامراته الحربيّة التي رواها لي في طفولتي ومراهقتي، بعدما مرور أكثر مِن 14 سنة على تَرْكِه العمل الحزبي والانتماء اليساري والشيوعي. وقدّ شكَّلت قصصُ المعاركِ التي خاضها والدي نواةَ أحلامِ يقظتي الميليشياويّة التي اكتشفت لاحقاً، منذ بضع سنوات – ويا لدهشتي حينما اكتشفت ذلك!– أنها نسخةٌ طبق الأصل عن ما رواه الشاعر شارل شهوان في مجموعته القصصيّة الإستثنائيّة "حرب شوارع" التي صدرت عام1991، وصَوَّر فيها تصويراً حسيّاً محموماً حياةَ بعض المقاتلين المسيحيين في حرب السنتَيْن (1975 – 1976). كنتُ أعتقدُ أن تهويماتي القتاليّة، الماجنة والمسعورة، لا تمت إلى الواقع بصلة؛ فإذا بي أدرك، أثناء قراءتي نصوص شارل، أنّ ما نَسَجَتْه مُخيِّلتي الفتيّة آنذاك مستلهِمةً حكايات والدي المُلَطَّفة بل المُعَقَّمة، يشبه إلى حدّ التماهي أجواء بعض قصص "حرب شوارع": تَفَلُّت الغرائز، نشوة القتل، التحرر مِن قيود مجتمعٍ بات حُطاماً، الإسراف في السهر والجنس والسكر وتعاطي المخدرات... كأنّما الحرب احتفاءٌ بالحياة وليس بالموت: حياة مُفعمة بشهوة حيوانيّة قلّما يختبرها مَن لم يحيا إلّا في زمن السلم. وربما هنا يكمن تفوّق شارل شهوان على جلّ مَن كتبوا أدب الحرب الأهلية: فبينما أدان الأخيرون في سردهم وعلى نحو مُبطَّن عنفَ الحربِ وشرورَها، مغْفِلين شيئاً مِن جوهرها، اكتفى شهوان بنقل حقيقتها الغرائبيّة الفجّة والملموسة، بلا إدانةٍ أو إطلاق أحكام. ولعلّ يوسف بزّي الذي روى يومياته الميليشياوية في كتابه "نظر إليَّ ياسر عرفات وابتسم"، نجح هو الآخر، في تصوير واقع حياة المُقاتلين بأسلوبٍ عنيفٍ، جافّ ومُجرّد مِن المشاعر، وبلا أي إسقاطات أخلاقيّة.

***

 ما كتبه شارل عشتُه أنا في أحلام يقظتي، كما لو أنني حَدستُ، عبر نبرةِ صوتِ أبي وإيماءاتِه وتعابيرِ مُحَيّاه، نشوةَ الحربِ التي حجبها عنّي عندما كان يَقصُّ عليّ شذرات مِن مُغامراته. أو ربّما تسرّبَتْ إليّ خلسةً، مِن مصادر كثيرة، بعضُ أصداءِ تلك النشوةِ: مِن نشرات الأخبار، مِن أحاديثِ أصدقاءِ أبي وأخوتِه، من ما كان يردّده أترابي ممّا سمعوه مِن أهلهم، ومن الكليبات الدعائيّة، الحربيّة والحزبيّة، التي كانت تبثّها محطّات التلفزيون لساعاتٍ طوال واحداً تلوَ آخر، إلخ...


وقد أحسَستُ مرّةً بمَسٍّ طفيفٍ مِن هذه النشوة في عالم الواقع وليس في دنيا الأحلام. كان ذلك في حرب تمّوز 2006 التي شنّتها اسرائيل على حزب الله، واستمرّت 34 يوماً، فوقع ضحيّتها أكثر مِن ألف قتيل مدني. حينذاك كانت العاصمة بيروت، حيث منزلي، في منأى عن أيّ خطر. لكن دويّ القنابل المُنهمرة مِن السماء كثيفةً متواصلةً على الضاحية الجنوبيّة كان يُزلزل بيروت برمَّتها، زارعاً الرعب في النفوس. وطوال ذلك الشهر تسمرت أمام شاشة التلفزيون مشدوهاً بصُوَر القتلى والجرحى، وبمشاهد حُطام ضاحية بيروت الجنوبية وقرى الجنوب ذي الأغلبيّة الشيعيّة. كنتُ قلقاً مَوْتُوراً مذعوراً ومُغتبطاً في آن. وكانت غبطتي تبلغ النشوة أحياناً: نشوة امّحاء أيّ نوع مِن الذنب، ذاك الذنب الذي لازمني كظلّي منذ طفولتي الباكرة حتّى الآن، فكبّلني ونكَّد عَيْشي. فالحرب، وإن قَصُرَ أمدُها كحرب تمّوز، تَنقُل مُعظمنا إلى مملكةٍ يتربّع الموتُ على عرشها، فتنتفي فيها همومُنا الوضعية كطموحاتنا وأحلامنا العظيمة، إذ لا نعود نأبه بغير استمراريّة حياتنا في أبسط أشكالها. وإذا لم تُصَبْ برصاصةٍ أو شظيّةٍ، ولم يَسْتَحِلْ بيتُكَ رُكاماً، ولم يَلْقَ أحدُ أحبّائكَ مصرعَه، تَنْعَتِقُ مِن ذاك الذنبِ قرين الإنسان منذ أن قضم جدنا آدم - عليه السلام - الثمرةَ المُحرّمةَ؛ فتَتذوق حينئذٍ شيئاً مِن تَيْنِكَ الخِفْةِ والبراءةِ اللّتَيْن أنعمهما الخالق على جدِّنا الأوّل قبل اقترافه الخطيئة الأصليّة وسقوطه مِن جنّة عدن.


على الرغم من ذعري طوال الشهر والنَيِّف من حرب تموز، نَعِمْتُ بسكينةٍ وشعورٍ بالخفّةِ والبراءةِ والحريّةِ، لم أعرفهما إلا في أحلامي الميليشياوية التي شاركتُ فيها بمعارك لم أخضها وكنتُ أجهلُ كلّ شيء عنها، واكتشفت لاحقاً أنّها شبيهة بتلك التى صوَّرها شارل شهوان ويوسف بزي. وعلى عكس ما أفْتَرِضُه الآن عن بعض "الذين في عمري أو أكبر أو أصغر منّي قليلاً"، لم أشعر قط بذنبٍ لعدم مُشاركتي في الإقتتال الأهلي، بل فقط بنوباتِ حنينٍ مُتقطّعة إلى ذاك الزمن الذي رَسَمْتُ صورتَه، ليس بذكرياتي الضبابيّة الضئيلة التي طوى النسيانُ معظمَها، وإنما بما تشرّبْته مِن نُتَفِ أقاويلٍ وأحاديثٍ مُجتزأةٍ سمعتُها خِلسةً مِن هنا وهناك، فجَبَلَتْها مُخيِّلتي الجامحة لتصنع منها حَرْبِيَ الخاصة التي كنتُ بطلها، وتبدّت لي لاحقاً، فيما كنت أقرأ قصص شارل وكتاب يوسف، ترجمةً وَفيّةً للحرب الحقّة الحقيقيّة. ما عاشه الآباء وحجبوه عن أبنائهم، لا مفرّ من أن يورثوهم إيّاه. فعلى الرغم مِن أنني لم أمسك يوماً سلاحاً، إلا انني خُضت معاركَ دمويّة طاحنة لا تُحصى.

***

 لكن حربي ليست حرب فيديل. فهو ورث عن أبيه ما لم أرثه عن أبي: روايةٌ إيديولوجيّة تفصيليّة عن الاقتتال الأهلي. لذا كانت حربي طائفيّةً بالمعنى السطحي للكلمة، ولا تعدو تالياً أكثر مِن مجازر عبثيّةٍ بين مسلمين ومسيحيين حملهم على ارتكابها عتهٌ افْتَرَضْتُه مُقيماً في روح كلٍّ من الطرفين – مجازر لعبَ فيها السوريُّ والفلسطينيُّ والإسرائيليُّ أدواراً غائمةً عجزْتُ عن تعيينها. أما حرب فيديل ووالده فكانت صراعاً طبقيّاً واضح المعالم بين قوى ثوريّة، تقدّميّة وعروبيّة، تصبو إلى إحقاق الحقّ في الأرض، وأخرى بورجوازيّة، رجعيّة وانعزاليّة، تعيث في الأرض فساداً.

والحال أن فيديل ورث ما هو أثقل مِن تلك الرواية بأطنان، ولعلّ فِعْلَ "ورث" ههنا تعبيرٌ مُلَطَّف. ذلك أنه وُلِدَ شيوعيّاً مثلما يولَد امرؤٌ درزيّاً أو سنيّاً أو شيعيّاً أو مارونياً، بلّ مثلما يولَد بُنّيَّ العينَيْن أو أزرقَهما. كان والد فيديل أشبه بشيخٍ صوفي يتردّد إليه مُريدون كُثُر مِن أبناء قريته الجنوبيّة ليَغْرُسَ في نفوسهم بذورَ الماركسيّة، وليوزِّعَ عليهم حصصاً غذائيّة تأتيه من منظّمة التحرير الفلسطينيّة. وكان على قناعةٍ تامّة بأنّ قيامَ دولةٍ اشتراكيّةٍ تُنهي الحربَ والطائفيّة والرأسماليّة معاً، وشيكٌ وحتميّ. والحقّ أن فيديل لم يتشرّب طفلاً حلمَ أبيه وحسب، وإنما أبصرَ النور موسوماً بهذا الحلم: "عندما اختار لي [والدي] اسم فيديل، كان يخالف قاعدة اجتماعيّة راسخة ومتوارثة: أن يُسمّي الابنُ ابنَه البكر باسم أبيه. وهو اختار لي اسم فيديل، وليس غيفارا، لأنه عدّ الأوّل أكثر عقلانيّة وواقعيّة من الثاني. أعطاني اسماً ليمهّد لي الطريق إلى عالم أحلامه الذي لم يكن يشكّ في أنه سيتحقّق. اسم يمنحني سلفاً مركز الصدارة في العالم الثوري المُقبِل، الذي حملتُ عبئه ومسؤوليته مبكراً. اسم سيبقيني شيوعيّاً إلى الأبد" (ص 99).

بقيَ فيديل ساعياً في حلم أبيه، على الرغم من أن أباه مُنيَ بالخيبة فانكفأ على نفسه منزوياً في بيته لا تُؤْنِسُ وحشتَه سوى صحبةِ الكُتبِ وخَدَرِ الويسكي، تاركاً ابنه في الثورة وحيداً. بقيَ فيديل حاملاً شعلة الثورة فاحترق بها.

***

كيف لابنٍ أن يثور على والدٍ هو نفسه ثائرٌ بل أنموذجُ الثائِر، أيّ مُناضل ومُقاتل شيوعيّ ظلّ، برغم انكساره وقُنُوطه وعزوفه عن النضال، ثابتاً في إيمانه الثوري؟ لعلّ ثورة فيديل على أبٍ كهذا لم تكن ممكنةً إلا بسَعْيِه لتحقيقِ الحلمُ الثوري الذي عجز والده عن تحقيقه، وبسُبُلٍ مُعاكِسةٍ للّتي توسَّلها والده. لكن كيف لكَ أن تُشعِل بالسلم نارَ ثورةٍ فشِل أهلُكَ في إشعالها بالحرب؟

كان فشل فيديل ذريعاً، إذ لم يقتصر الأمر على تبخّر الحلم سريعاً، بل تعدّاه إلى تَحَوُّلِ حاِملِ الحُلْمِ نسخةً باهتةً مِن أبيه.

***

 يكتب فيديل: "عندما اتّفقنا على تأسيس مجموعتنا السياسية في أواسط التسعينيات من القرن المنصرم في كُلّيّة الحقوق في الجامعة اللبنانيّة، وسمّيناها 'طلاب ديموقراطيون'، لم نكن نعلم، نحن أبناء ماركسيّي السنوات الماضية، من أين نأتي بنظامها الداخلي، وكيف نُحدِّد أهدافها. كل ما كنّا نملكه كميّة من المقولات والعبارات والشعارات التي سمعنا أهلنا يردّدونها بصفتهم مناضلي الحقبة السابقة المحبطين لما آلت إليه أحوالهم وأحوال البلاد، بعدما كانوا يعتقدون أنهم أرباب الدولة الاشتراكيّة المُقبلة. ما أسّسناه لم يكن مجموعة سياسية حقيقية، قدر ما كان تجمّعاً لأبناء المناضلين اليساريّين المحبطين والقابعين في بيوتهم [...] كان الهدف من مجموعتنا رتق المسافة الفاصلة بين قعود أهلنا عن العمل السياسي وقرارنا نحن أبناؤهم استكمال ما بدؤوه" (ص95).

وعلى الرغم من أن انتقالَ شعلةِ الثورةِ مِن الأب إلى الإبن هي لُبُّ الكتاب، لا يُخَصِّص فيديل سوى صفحاتٍ قليلة لأيام نضاله اليساري. قد يعود هذا الاقتضاب إلى أنّ نضالَه وُلِد شبه ميتٍ، لكونه مجرّد تكرارٍ آليّ لنضالِ والدِه وجيله، فلم يَنْطَوِ إذاً على أي رغبةٍ فرديّة تمدُّه بطول العمر. هو يرى نفسَه وغيرَه من أترابه كائناتٍ مُسْتَنْسَخَة: "نحن أبناء اليساريين القدامى نتشابه تماماً[...] كلنا نسخ مكرَّرة أو طبق الأصل لنموذج واحد. نُقبِل على الاعتصامات نفسها، ونسهر في المرابع الليلية نفسها، وكلنا من محبّي زياد الرحباني وغيفارا. لا نفترق إلا في سحناتنا وملامحنا، رغم أن ملابسنا متشابهة في تماثلها مع أزياء يساريي ستينيّات القرن المنصرم وسبعينيّاته" (ص 102).

***

تنتهي قصّةُ هذا النضال بتحوُّلِ فيديل شبحاً هائماً بين أشباح: "[...] انعمستُ في عالم السهر البيروتي، كانت هذه طريقتي لدرء الإحباط، أي بالكحول وأصدقاء السهر الذين لا يعنيهم قضية ولا نضال، بلّ فَنِّيَّتهم الشخصيّة للفنانين منهم، والتسلية وتزجية الوقت للمدمنين على الشراب [...] اتّخذتُ من كتابة الشِّعْر وسيلة للتعبير، أي صرتُ شاعراً، وجهدتُ لتقديم نفسي كشاعر بوهيمي، لا يكترث بأي أمر، بل يعيش كل يوم بيومه ناقلاً الكأس من يد إلى يد، والأصابع من جسد إلى جسد. تَفَلَّتُّ من أي رابط بأي قضية سوى تلك التي تأتيني بعد شرب عدّة كؤوس. أي الأفكار التي تعني أن العالم الحقيقي هو ذاك الذي يدور في رأسي، بينما العالم الوَهْمي هو الذي يدور خارج هذه الرأس التي أعيتْني لشدّة طلبها الكحول في محاولة لدرء الأوهام المتوالدة والمتكاثفة إلى ما لا نهاية" (ص 111).

 

***

أتمنّى أحياناً عودةَ الحربِ وأعتقدُ أن فيديل يتمنّى هو الآخر ذلك. أعتقدُ أنّه يتمنّى أحياناً عودتَها كي يحظى بفرصةٍ عادلةٍ لمضارعةِ والدِه في مآثره الثوريّة بل للتفوّقِ عليه في هذا المضمار. فقط عندئذٍ سيتخفّف مِن وِزْرِ اسمه، إذ سيكون أضحى جديراً بحمله.

أما أنا، فأتخيَّلُني في الحرب مُتخفِّفاً مِن كلّ وِزْر، وخاصةً مِن وِزْر أناي؛ أتخيَّلُني أرتفع عن الأرض بخفّةِ وَرَقَةٍ وأشرع بالتحليق. غريبٌ كيف يخلو تصوّري للحرب من كل ألمٍ وأي فاجعة. فقط حريّة وبراءة لامتناهيتَيْن. أحنّ إلى الحرب كأنها جنّتي التي طُرِدْتُ منها؛ أحنّ إليها لأنني كنتُ أحيا وقتذاك في لحظةٍ أبديّة خارج الزمان فلا أرزح تحت وطأة ماضٍ أو مستقبل. أحنّ إليها لأنها صورتي الوحيدة عن الطفولة. ولعلّ كُثُراً ممّن وُلِدوا أثناء الحرب، لا صورة لديهم سواها عن زمن الطفولة؛ ولعلّ الذكور مِن هؤلاء كانوا يرون أنفسهم ميليشياويين في أحلام مراهقتهم؛ ولعلّ أحلامهم هذه مِن أسعد لحظات حياتهم.



(*) "لماذا تركْتَني في الثورة وحيداً؟"، فيديل سبيتي، "منشورات المتوسط" و"دار السويدي للنشر والتوزيع"، 2018، 160 صفحة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024