هذا التبجيل للمرأة في الثقافة والأدب العربي، يخفي داخله دائماً نوعاً من الوصاية والتنميط، فهو يمنحها لقب السيدة ليحدد لها بعد ذلك نمط الشعر المسموح بكتابته. وأنا شخصياً مَدين لأجيال جديدة من النسويات، ولموجات نقد الخطابات الذكورية الأخيرة، التي جعلتني ألتفت إلى هذه التفاصيل. وعلى ضوئها، اكتشفت عشرات الأسماء لسيدات وكاتبات هُمّشن من سردية الأدب العربي تماماً. فاكتشفت مثلاً أني لم أقرأ لأي كاتبة عربية من كاتبات النصف الأول من القرن العشرين، ولم ندرس أعمالهن في أي مرحلة دراسية، ولا تعاد طباعة أعمالهن مثلما تعاد طباعة أعمال العقاد، والمازني، ولطفي السيد، وقاسم أمين، وطه حسين وغيرهم من الكتّاب الذكور الذين كتبوا عن تحرير المرأة الكثير، حتى أنهم ردموا بأعمالهم الكاتبات اللواتي حاولن التحرر.
بل حتى مي زيادة، أيقونة الكاتبات في النصف الأول من القرن العشرين، نقرأ عنها من دون أن نجد كُتبها، وتحضر صورتها كصاحبة صالون، معشوقة يتغزل بها الكتّاب والمثقفون في حين لا نعرف الكثير عن كتاباتها بل ويصعب حتى أن نجدها.
وليس السؤال هنا سؤال قيمة، على طريقة "لكن الفن الحقيقي يعيش". فالفن الذي يعيش هو الفن الذي يجد مؤسسات اقتصادية/معرفية/أكاديمية/سياسية تتبنى خطابه وتعيد انتاجه وتقديمه. ولم يستطع الخطاب النسوي الأدبي المصري أن يجد مكاناً وحصناً له، إلا مع دخول النساء للجامعة، وخلف الرداء الأكاديمي تمكنت النساء من الكتابة عن أعمالهن وتقديمها وتحليلها وانتاج خطاب نسوي أدبي، بعيداً من الوصاية وتهميش الخطابات النقدية الذكورية.
وحتى مع الحصن الهش الذي قدمته الأكاديميا للأدب النسوي، عانت الكاتبات تهميشاً مفزعاً في وقائعه، وهو ما يسرده شعبان يوسف في كتابه المؤلم. وتبقى مدهشة النهايات المأسوية كقاسم مشترك بين كتابات عربيات كثيرات، من مي زيادة التى انتهت في مستشفى المجانين، إلى عنايات الزيات التي ماتت منتحرة.
السيطرة الذكورية تفرض كامل نفوذها على أجناس وأنواع أدبية. فشعر العامية مثلاً، لم يسمح بدخول النساء فيه إلا في التسعينات. أما الترجمة، فرغم ظهور الترجمات الأدبية لمترجمات نساء منذ الستينات، فإنها مذهلة تلك السيطرة شبه المطلقة للذكور على مجال الترجمة، الأمر الذي يؤثر بوضوح حتى في رؤيتنا للعالم.
فمثلاً، حينما انطلقت موجة الهوس بأدب أميركا اللاتينية، غرقنا –وما زال الفيضان مستمراً- في خضم مئات العناوين من أدب أميركا اللاتينية، من الواقعية السحرية إلى الواقعية الاشتراكية، لكن المدهش أن جميعهم كتّاب ذكور. ولم نعرف طوال عقود أى كاتبة من أميركا اللاتينية، إلا مؤلفة المسلسلات المكسيكية إيزابيلا الليندي، في حين توجد كاتبات رائدات في أدب القارة اللاتينية، مثل كلاريسا ليسبيكتور، الرائدة الطليعية ذات التأثير الكبير في كتّاب القارة، والتي لم يُترجم أي من أعمالها إلا منذ بضع سنوات، وهي التي توفيت في السبعينات، وتُرجمت أكثر من مرة للانكليزية، ولكل لغات العالم، تحت لقب "كافكا البرتغال".
يتكرر هذا الأمر حالياً مع موجة الاهتمام المتزايد بالأدب الياباني، لا سيما المعاصر منه، فنلاحظ غلبة الكتّاب الذكور، وغياب أي ترجمات لكاتبات من اليابان.
نظريتي الخاصة أن قلة عدد المُترجمات يؤدي إلى تشويه وعينا بأدب العالم، وتخيله كأدب ذكوري. والملاحظ أن الاسهامات القليلة للمترجمات العربيا،ت هى ما غيّر هذه الرؤية. فحتى الستينات مثلاً، لم نكن نعرف من كتّاب أميركا إلا الأسماء الكلاسيكية، من مارك توين، إلى شتايبينك وهمنغواي، ونلمح بوضوح التأثير الكبير لهمنغواي بالذات في كتّاب الستينات المصريين والعرب، وكيف انتشرت "تقنية جبل الجليد". وذلك ببساطة لأن أحداً لم يتبرع بترجمة أعمال أى كاتبة أميركية، إلا حينما تمكنت النساء العربيات من التحصن في جدران الأكاديميا، فصدرت الترجمة العربية الأولى لفرجينيا وولف وكتابها "القارئ العادي" العام 1971 بترجمة د.عقيلة رمضان، وراجعتها سهير القلماوي.
مرة آخرى لا أصرخ ولا أدين أحداً، بل هي دعوة للبحث عن فقيدات الأدب العربي، وللانتباه إلى تلك البقعة العمياء في رؤيتنا لتاريخنا الأدبي، ولحركة الأدب العالمي.