النقطة العمياء خلف شوارب الأدب العربي

أحمد ناجي

الثلاثاء 2019/05/21
"إن الاستعداد للشعر نادر.. وإنه بين النساء أندر.. فالمرأة قد تحسن كتابة القصص، وقد تحسن التمثيل، وقد تحسن الرقص الفني من ضروب الفنون الجميلة، لكنها لا تحسن الشعر، ولم يشتمل تاريخ الدنيا كله بعد على شاعرة عظيمة، لأن الأنوثة –من حيث هي أنوثة- ليست معبّرة عن عواطفها ولا هي غلابة تستولي على الشخصية الأخرى التي تقابلها، بل هي أدنى لكتمان العاطفة وإخفائها، وأدنى إلى تسليم وجودها لم يستول عليها من زوج أو حبيب".

الفقرة السابقة لعبقري الأدب العربي، وعملاق النثر والشعر، ورسول التخلف والرجعية في القرن العشرين، عباس العقاد. وهي ليست من مقال يذم فيه النساء، بل على العكس، الفقرة من فصل خصصه لمدح التجربة الشعرية  للسيدة عائشة التيمورية، في كتابه "شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي". في هذا الفصل، قدم العقاد ضربة مزدوجة. فمن جهة نفى قدرة المرأة على كتابة الشعر، ومن جهة آخرى اعتبر التيمورية الاستثناء الذي يؤكد قاعدته، لأنه في بعض الحالات النادرة، كما يقول، قد تحسن المرأة كتابة الرثاء مثل الخنساء أو قصائد التيمورية التي ترثي فيها ابنتها. 

هذا الموقف الرجعي ليس بغريب عن العقاد، ولا عن الثقافة العربية التي لا نضيف جديداً حينما نصفُها بالذكورية. ليس موضوعي هو الإدانة والصراخ على طريقة "نباطشية الصوابية السياسية"، بل تتبع الأثر لهذا النمط الذكوري في تشكيل التقاليد الأدبية والثقافية العربية وفي تشكيل وعينا بأدبنا وبالعالم.

مؤخراً، مع إعلان فوز هدى بركات بجائزة البوكر العربية، لاحظت أن البعض في الشبكات الاجتماعية، يسبق اسم هدى بركات بلقب الست، ثم انتقلت العدوى إلى المواقع الاخبارية، فيقولون الست هدى بركات، والست إنعام كجه جي، وهو لقب كنت أظنه حكراً على الست أم كلثوم والست نجوى كرم. لكن انتقاله إلى الحقل الأدبي بدا مدهشاً، ولم أعرف، هل هو من قبيل التبجيل أم التقليل؟ ومتى تحصل الكاتبة على لقب الست؟ هل بالمنجز الأدبي أم بالتقدم في العمر؟ ولماذا لا يحصل الكتّاب الذكور على لقب مماثل، فنقول مثلا السيد واسيني الأعرج، أو سي الدلعدي يوسف القعيد.

بحثاً عن جذور لقب الست في الأدب العربي، عدت إلى كتاب صغير بديع لشعبان يوسف، صدر تحت عنوان "لماذا تموت الكاتبات كمداً؟!"، ووجدته يرصد الملحوظة نفسها قديماً. فحينما كتبت مي زيادة عن التيمورية، عنونت دراستها النقدية "شاعرة الطليعة.. عائشة التيمورية". أما فحل الأدب العربي، عباس العقاد، فعنون مقاله "السيدة عائشة التيمورية".
هذا التبجيل للمرأة في الثقافة والأدب العربي، يخفي داخله دائماً نوعاً من الوصاية والتنميط، فهو يمنحها لقب السيدة ليحدد لها بعد ذلك نمط الشعر المسموح بكتابته. وأنا شخصياً مَدين لأجيال جديدة من النسويات، ولموجات نقد الخطابات الذكورية الأخيرة، التي جعلتني ألتفت إلى هذه التفاصيل. وعلى ضوئها، اكتشفت عشرات الأسماء لسيدات وكاتبات هُمّشن من سردية الأدب العربي تماماً. فاكتشفت مثلاً أني لم أقرأ لأي كاتبة عربية من كاتبات النصف الأول من القرن العشرين، ولم ندرس أعمالهن في أي مرحلة دراسية، ولا تعاد طباعة أعمالهن مثلما تعاد طباعة أعمال العقاد، والمازني، ولطفي السيد، وقاسم أمين، وطه حسين وغيرهم من الكتّاب الذكور الذين كتبوا عن تحرير المرأة الكثير، حتى أنهم ردموا بأعمالهم الكاتبات اللواتي حاولن التحرر.



بل حتى مي زيادة، أيقونة الكاتبات في النصف الأول من القرن العشرين، نقرأ عنها من دون أن نجد كُتبها، وتحضر صورتها كصاحبة صالون، معشوقة يتغزل بها الكتّاب والمثقفون في حين لا نعرف الكثير عن كتاباتها بل ويصعب حتى أن نجدها.

وليس السؤال هنا سؤال قيمة، على طريقة "لكن الفن الحقيقي يعيش". فالفن الذي يعيش هو الفن الذي يجد مؤسسات اقتصادية/معرفية/أكاديمية/سياسية تتبنى خطابه وتعيد انتاجه وتقديمه. ولم يستطع الخطاب النسوي الأدبي المصري أن يجد مكاناً وحصناً له، إلا مع دخول النساء للجامعة، وخلف الرداء الأكاديمي تمكنت النساء من الكتابة عن أعمالهن وتقديمها وتحليلها وانتاج خطاب نسوي أدبي، بعيداً من الوصاية وتهميش الخطابات النقدية الذكورية.

وحتى مع الحصن الهش الذي قدمته الأكاديميا للأدب النسوي، عانت الكاتبات تهميشاً مفزعاً في وقائعه، وهو ما يسرده شعبان يوسف في كتابه المؤلم. وتبقى مدهشة النهايات المأسوية كقاسم مشترك بين كتابات عربيات كثيرات، من مي زيادة التى انتهت في مستشفى المجانين، إلى عنايات الزيات التي ماتت منتحرة.

السيطرة الذكورية تفرض كامل نفوذها على أجناس وأنواع أدبية. فشعر العامية مثلاً، لم يسمح بدخول النساء فيه إلا في التسعينات. أما الترجمة، فرغم ظهور الترجمات الأدبية لمترجمات نساء منذ الستينات، فإنها مذهلة تلك السيطرة شبه المطلقة للذكور على مجال الترجمة، الأمر الذي يؤثر بوضوح حتى في رؤيتنا للعالم.

فمثلاً، حينما انطلقت موجة الهوس بأدب أميركا اللاتينية، غرقنا –وما زال الفيضان مستمراً- في خضم مئات العناوين من أدب أميركا اللاتينية، من الواقعية السحرية إلى الواقعية الاشتراكية، لكن المدهش أن جميعهم كتّاب ذكور. ولم نعرف طوال عقود أى كاتبة من أميركا اللاتينية، إلا مؤلفة المسلسلات المكسيكية إيزابيلا الليندي، في حين توجد كاتبات رائدات في أدب القارة اللاتينية، مثل كلاريسا ليسبيكتور، الرائدة الطليعية ذات التأثير الكبير في كتّاب القارة، والتي لم يُترجم أي من أعمالها إلا منذ بضع سنوات، وهي التي توفيت في السبعينات، وتُرجمت أكثر من مرة للانكليزية، ولكل لغات العالم، تحت لقب "كافكا البرتغال".

يتكرر هذا الأمر حالياً مع موجة الاهتمام المتزايد بالأدب الياباني، لا سيما المعاصر منه، فنلاحظ غلبة الكتّاب الذكور، وغياب أي ترجمات لكاتبات من اليابان.

نظريتي الخاصة أن قلة عدد المُترجمات يؤدي إلى تشويه وعينا بأدب العالم، وتخيله كأدب ذكوري. والملاحظ أن الاسهامات القليلة للمترجمات العربيا،ت هى ما غيّر هذه الرؤية. فحتى الستينات مثلاً، لم نكن نعرف من كتّاب أميركا إلا الأسماء الكلاسيكية، من مارك توين، إلى شتايبينك وهمنغواي، ونلمح بوضوح التأثير الكبير لهمنغواي بالذات في كتّاب الستينات المصريين والعرب، وكيف انتشرت "تقنية جبل الجليد". وذلك ببساطة لأن أحداً لم يتبرع بترجمة أعمال أى كاتبة أميركية، إلا حينما تمكنت النساء العربيات من التحصن في جدران الأكاديميا، فصدرت الترجمة العربية الأولى لفرجينيا وولف وكتابها "القارئ العادي" العام 1971 بترجمة د.عقيلة رمضان، وراجعتها سهير القلماوي.

مرة آخرى لا أصرخ ولا أدين أحداً، بل هي دعوة للبحث عن فقيدات الأدب العربي، وللانتباه إلى تلك البقعة العمياء في رؤيتنا لتاريخنا الأدبي، ولحركة الأدب العالمي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024