بيرت مورسيو: الانطباعية الأولى

روجيه عوطة

الخميس 2019/08/29
في تاريخ الانطباعية، مجموعة من الفنانات اللاتي صنعن هذا التيار، وتركن بصمتهن عليه، وقد تكون ابرزهن بيرت موريسو، التي ينظم متحف اورسيه* في باريس معرضا لها، مستعيدا أعمالها. كانت موريسو، وفي مطلع مسيرتها، من مؤسسي جمعية الفنانين المتحدين مع مانيه، الذي تبادلت واياه الأثر على بعضهما البعض، بحيث أنهما احيانا يرسمان المشهد نفسه، او يرسمان منه التفصيل ذاته. وهذا الى أن انفصلت عنه من ناحية الميلان الخطي في اللوحة، ومن ناحية وقع الضوء داخلها، من دون أن يعني ذلك أنه لم يعد يتبادلا الأثر، ولكن، صار لكل منهما أسلوبه، أو، وقبل هذا، امضاء مختلف به.

على أساس تقديمها، من الممكن الانتباه إلى أن الأعمال تتمرحل انطباعيا. بداية، كان الرجاء الطاغي فيها هو المنظر الطبيعي، وهذا، بوصفه مائيا، يقوم بخطوط لا تكثر في انحناءاتها أو في اعوجاجاتها، ولكنها، فعليا، تتباعد في ظهورها عشبيا وشجريا. في هذه المرحلة، كان الرجاء، ورغم كثافة خضرته، على وسعه، الذي يبين فيه نوع من فراغٍ، يوزع تلك الخضرة، مرة، بإعتامها، ومرة، بإضاءتها. في الغالب من الأحيان، وحين يكون هذا الرجاء مسكونا إنسيا، لا يحضنه، أو يلفه، كما أن ساكنه لا يقطن فيه، انما، في الواقع، يتدثر به.

على أن، وفي مرحلة اخرى، يتسم الرجاء اياه، اي المنظر الطبيعي، برحابة اقل، وهذا، بفعل تقلص الفراغ فيه، وتدكين خضرته، وجعلها على تماسك، أو صلابة. ما يهم، هنا، أن هذا المنظر يصير مسكونا على طريقة مغايرة لما هي عليه في المرحلة السابقة: الساكن يقيم بالرجاء، يثقله، احيانا، يجثم فيه، وبالتالي، يكاد يكون موطنه، الذي ينجلي منه. ففي هذا السياق، لا بد من ملاحظة، وهي ملاحظة مكررة حول الانطباعية، مفادها ان الأشخاص الذين يظهرون في مناظرها على العموم، لا يمكن الحسم ان كانوا فعليا يطلعون منها، أو يمرون فيها. في لوحات موريسو، لا سيما في مرحلة تقليص الفراغ، يفعلوا الأمرين على حد سواء، وهذا، لأن تلك المناظر تكون في صدد التكون كمواطن.

هذا ما يحصل على تمامه في المرحلة الثالثة من انطباعية موريسو، حيث أن المنظر الطبيعي يتحول من رجاء إلى موطن، وهذا، من خلال تثبيته. وفي هذه الجهة، لا بد من الإشارة إلى أن موريسو، وحين تثبت الرجاء كموطن، لا تعمد دائما إلى جعله جوانيا، بل من الممكن المجازفة في القول إنه لا يكون على حاله سوى مفتوحا على خارج. ففي تلك اللوحة الشهيرة، التي ترسم فيها موريسو مانيه في جزيرة وايت، تبديه جالسا، أو على شبه الجلوس، في غرفة، وقد رمى بنظرته من وجهه على الشارع، رائيا ام وابنتها. بينه وبينهما، نبات، أمامه، سياج، ومن بعدهما، سفن راثية.
 

في هذه اللوحة، الموطن حاضر على أكمل وجه، إذ لا يفصل بين مانيه والأم وابنتها، إنما، يجمعهما في مكان واحد، يتسع لهما، كل من مطرحه. هذا الموطن هو البحر، بما هو ماء، وبما هو صفاء. ففي الغرفة، ستارة شفافة، تبين خلفه، وتبدو امتداد للبحر، بحيث، وعندها، يصير مانيه واقفا على شاطئه، كما يغدو مشاهدا لما يحيل إلى مرور الوقت، أو انقضاء العمر، أو الانتظار، ومعه، الوداع. بهذا الشكل، موطن موريسو، أو الرجاء الذي يحل موطنا، ولأنه مفتوح، يوصل دوما بين جوانيته وخارجها، ويجعلهما يدوران في غيره، أو على طرفه. وحينها، يتغير واحدهما حيال الثاني، ويصيره فيه: مشهد الام وابنتها ليس سوى في رأس مانيه، الذي يقف واياهن على شاطئ البحر.

ربما، لا يمكن ختام تمرحل انطباعية موريسو سوى بلوحة بورتريها الشخصي، الذي، وفيه، لا يكون المنظر موطنا، إنما مقتطعا منه. بالطبع هذه سمة من سمات البورتريه الانطباعي، الذي يبدي موضوعه كأنه جزء من منظر رحب، اقتطع منه، وفي وضع موريسو، اقتطع في حين تنبهه إلى دائر ما في ناحية منه. هذا التنبه، الذي يظهر بملمح على الوجه، يسجل علاقة بالمنظر بعد ان صار موطنا، بحيث أنها علاقة استئناس بتسريح الخاطر، لدرجة ان حدقات العيون السوداء تؤلف مركز المحيا، ومحطيه، الذي يتطابق معه بالصفرة وأحمرها، الذي يمتد من الوجنتين إلى وراء الرأس، وعندها تصبح موريسو متذكرة أكثر منها شاردة. على هذا المنوال، قوام رسم بيرت موريسو هو انه، وعلى اللوحة نفسها، ومن كل لون من الوانها، وضوء من اضوائها، وخط من خطوطها، قد يتغير كل المنظر فيها، وبالتالي، يتبدل كل معناه: ماء في المنظر، وميل في المعنى.

*Musée d'Orsay, 1 Rue de la Légion d'Honneur, حتى 22 أيلول.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024