50 عاماً على رحيل ناصر.. لحظة اليُتم في لبنان

محمود الزيباوي

الخميس 2020/10/01
في 28 أيلول/ سبتمبر غاب الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وبعد خمسين عاماً على رحيله، لا تزال الذاكرة تستعيد جوانب من فاجعة موت "الأب السياسي"، وأثره في الجماهير والشعراء والفنانين، في مصر وحتى لبنان...

 

مساء الإثنين 28 أيلول/سبتمبر 1970، افتُتح الموسم الجديد للمسرح الوطني في بيروت، وذلك خلافاً لعادة مسارح بيروت التي تقفل أيام الاثنين. أراد شوشو أن ينطلق بمسرحه الوطني انطلاقة جديدة، وشرع في تقديم مسرحيته "اللعب على الحبلين" بحضور 400 مدعو من أهل الفن من مختلف الحقول. رُفعت الستارة الساعة والتاسعة والنصف، وبدأ العرض كما هو مقرّر، وعلا الضحك، ومع بداية الفصل الثاني، عند الحادية عشرة وبضع دقائق، خفت الضحك وتبدّل المناخ. سرى الهمس بين الحاضرين، وبدأ الجمهور يتدافع للخروج من المسرح، وتوقف الممثلون وتسمّروا مكانهم على الخشبة. وصل نبأ وفاة عبد الناصر فجأة إلى المسرح الوطني، فسقط الستار على المسرحية، وسارع الجمهور إلى الخروج من القاعة. أغمي على البعض على درج المسرح، وراح البعض الآخر يلطم رأسه بالجدران.

بحسب رواية مجدي فهمي في مجلة "الشبكة"، كانت بين الحاضرين مجموعة كبيرة من نجوم السينما المصرية، منهم سهير البابلي التي مزّقت ثوبها تعبيراً عن ألمها، ورشدي أباظة الذي أسند رأسه على الحائط وراح يجهش بالبكاء، وفريد شوقي الذي راح يردّد: لا حول ولا قوة الّا بالله، ويوسف شعبان الذي أبى أن يصدّق الخبر، فبات يكلّم نفسه ويقول: لا مش ممكن.

في الكواليس، كانت حال نجوم المسرح الوطني اللبناني مماثلة لحال نجوم الشاشة المصرية. صاح شوشو حين سمع بالخبر: ليتني أصبت بالصمم ولم أسمعه. وقالت فريال كريم: كان الله في عوننا وعون مصر. وراحت مارسيل مارينا تبكي وتصرخ. سارع الفنانون المصريين إلى فنادقهم، وانصرف كلّ منهم لجمع حقائبه استعداداً للعودة إلى مصر، وقال رشدي أباظة حينها: "لقد أصبحنا جميعاً يتامى في لحظة".

في لبنان، كما في مصر، أضحى الجميع "يتامى في لحظة"، وكتب الشاعر أنسي الحاج في "ملحق النهار" نصاً يعبّر ببلاغة شديدة عن هذا اليتم: "عندما سمعوا النبأ تحوّل الجميع الى صغار. فالذي مات ليس رئيس دولة بل هو أب. أب الذين عبدوه وأب الذين تمرّدوا عليه. وقد تمرّدوا عليه تمرّد الأبناء على أبيهم. وها هو فجأة يتركهم. لذلك عندما سمعوا النبأ أحسّوا أنفسهم أيتاماً. فالذي مات ليس زعيم بلاد بل هو راعي رعيّة. وحين يموت الراعي يرعى الذعر في الرعيّة. وهذا ما حصل إذ ذُعر الجميع ليل النبأ. كان عبد الناصر مسؤولاً عن المنطقة كلّها، وكلّ انسان في المنطقة شعر كأنه هو المسؤول عن موت عبد الناصر، وشعر خاصة أن موت عبد الناصر يصيبه هو، يخيفه هو، يؤذيه هو. لأنّه لمّا كان حيّاً قال: أنا آخذ على نفسي كلّ عبء فلا تهتمّوا بشيء. وفجأة مات وانهارت الأعباء عن كتفيه متطلّعة إلى من يلتقطها. وعندما سمعوا النبأ تحوّل الجميع إلى صغار، وتحوّل العالم حولهم إلى فراغ. فقد كان وجوده ذخراً لمحبّيه وكان علّة وجود لأخصامه. وفجأة ترك ومضى. وكأنّه قطع رأس الجميع".

غصّ رئيس تحرير جريدة التلفزيون، كميل منسى، أثناء إذاعته نبأ وفاة ناصر، وقال معلّقاً عند تقديمه النشرة الإخبارية التي حوت بعضاً من خط الزعيم الراحل: والله ان صوت عبد الناصر لأرخم من صوت أم كلثوم. أطلّ رئيس الوزراء صائب سلام على الشاشة الصغيرة، وألقى خطاباً قصيراً رثى فيه الزعيم الراحل بتأثر بالغ، ولاحظت وسائل الإعلام ان القرنفلة التي اشتهر بها اختفت عن صدره. على مدى ثلاثة أيام، اتّشح لبنان بالسواد، وعمّت الكثير من أحيائه مظاهر الحزن واللوعة. جلّل السواد كل شيء. اصطبغت الصحف باللون الأسود، وارتدى الشبان الأسود، وعصبوا رؤوسهم بالعصب السوداء، وحذت الفتيات حذوهم، وقيل ان القماش الأسود انقطع من أسواق بيروت المقفلة بسبب ازدياد الطلب عليه، وإن عدداً من التجار بادر الى تأمين كميات منه من المعامل بصورة خاصة، تلبية لطلب المواطنين. في هذا السياق، أحرقت المئات من عجلات السيارات والأخشاب في الشوارع. واُحرقت سيارة في مستديرة الكولا في بيروت، وأخرى في الحدث، وثالثة في الشياح.

انتحرت امرأة تُدعى فاطمة عبد الله نقوش في بعلبك، بإحراق نفسها بالكاز، وحاول شاب الانتحار بالرصاص في محلة برج ابي حيدر. كما جرت العادة في بلادنا، عبّر الكثيرون عن ألمهم بإطلاق الرصاص، وجاء في التقرير الرسمي إن عدد قتلى الرصاص الطائش الذي أطلق في الأيام الثلاثة التي تلت وفاة ناصر بلغ 15 شخصاً، وأن عدد الجرحى بلغ الثمانين. وقيل ان ثمن الرصاص الذي أطلق في الأيام الثلاثة التي تلت وفاة الزعيم الخالد، قُدّر بمليون ليرة، وان ازدياد الطلب على الرصاص أدّى الى رفع سعره، بحيث بيع رصاص الكلاشنكوف الروسي المصنوع في سوريا بـ52 ليرة لكل مئة رصاصة بدلاً من 40 ليرة، وبيع رصاص المسدس من عيار تسعة ملم بـ50 ليرة للمئة رصاصة بدلاً من 40 ليرة، وارتفع سعر إصبع الديناميت الجاهز من ليرة وربع الى ليرتين.

سارع أهل الفن إلى السير في هذه القافلة، وسبق وديع الصافي زملاءه المصريين، وغنّى من كلمات أسعد سابا أغنية بعنوان "بعدك ناصر" صدرت بشكل مفرد في أسطوانة. بعده بفترة قصيرة، أطلق زغلول الدامور أسطوانة سجل عليها بصوته ومن كلماته، قصيدةً أشرف على إخراجها موسيقياً الملحن جورج يزبك. بدورها، سجلت سميرة توفيق اغنية من كلمات والحان محمد سلمان بعنوان "كلّنا جمال"، صدرت كذلك في أسطوانة مفردة، والجدير بالذكر أن هذه الأعمال صدرت كلّها قبل أربعين الزعيم الراحل.

حدث ذلك منذ خمسة عقود في لبنان. بقي ناصر حياً في السبعينات، وبرز في سنوات الحرب الأهلية التي أشعلت البلاد. وفي الثمانينات، تراجع حضوره شيئاً فشيئاً إلى ان دخل الظل في التسعينات. هكذا غاب الأب، وبات أيتامه اللبنانيون اليوم قلة، منهم الطبيب والوزير السابق كرم كرم الذي نشر في مجلة "الشراع" نصاً قصيراً يقول فيه: "لم تعرف هذه الأمّة مثله، إخلاصاً وإقداماً وتفانياً والتزاماً وأخلاقاً. كان لي شرف مشاهدته من قرب، من شرفة قصر الضيافة في دمشق، خطيباً جماهيرياً مفوّهاً، يأسر القلوب ويأخذ بتلابيب العقل. مات كما عاش، شريفاً، صادقاً، كبيراً في تعفَفه، رافعاً رأسه ورؤوسنا جميعاً، حافظاً كرامة مواطنيه وأبناء أمّته".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024