أحمد شوقي علي
غير أن القدرة الطارئة التي امتلكها الرجل، لم تكفه على ما يبدو، لأنه كان ما زال عاجزًا عن صناعة الحياة: تنقصه القدرة على الولادة، لذا لم يكن أمامه سوى أن يعيد سرد العالم على طريقته، سارقًا "سر النساء"، ومحتلًا كذَكَر مرتبة "الربّة العليا"، وقادرًا وحده على صناعة الحياة، يتكاثر ذاتيًا، أو يقذف البشر من فمه، أو يضاجع في صورته السماوية الأرض، أو يلد شريكته من جزء غير ذي قيمة في جسده، نافيًا كل شراكة للأنثى، وحارمًا إياها –ومُحرّماً عليها- كل حق في سرد "الأساطير، الملاحم، وأحيانا حتى الأمثال". وهو الأمر الذي يتردد صداه حتى اليوم في بعض الثقافات والأديان، حيث "لا يسمح للنساء بتلاوة، ناهيك عن تأويل، النصوص المقدسة أو عالية المكانة أو قيادة الطقوس الدينية".
يلفت بحث الأكاديمية الهولندية المطول (252 صفحة من القطع الكبير) إلى أن ثمة أصلاً بدائياً لكل معاناة تواجهها المرأة المعاصرة، وكذلك للعلاقة الأزلية المرتبكة بينها وبين الرجل، الذي استحوذ وحده على صياغة الوعي الإنساني، مؤرَّقاً بخوفه الشديد من عودتها لاستعادة حقها المسلوب. لذلك تبدو "الفكرة الشائعة القائلة بأنه لا بد من ترويض القوى الأنثوية على يد الرجال" مناسبة لخطوط التفكير الأسبق "بشأن ضرورة استبدال سلطة الربة العظيمة بإله خالق ذكر قادر على كل شيء. إن خلق الهيراركية، يعمل كإعادة طمأنينة في مواجهة بوابة الحياة المخيفة (تقصد المهبل)"، وتبدو معه ممارسة مثل استئصال البظر، مفهومة في إطار الخوف والحسد نفسهما، كما يتضح في قصة قبائل "دوجون" عن أصل الأشياء: "بعدما خلق (آما) الأرض، أراد أن يضاجع شريكته. لكن الأرض لم تكن قد تطهرت بعد بالاستئصال، ووقف تل النمل الأبيض في مواجهة آما. فاستأصله ومارس الجنس مع الأرض، بينما كانت مازالت تنزف بسبب الجرح"، في هذه القصة يجري تقديم الاستئصال كإجراء ضروري: إذ لا يجب أن يكون بظر الأرض مساويا لقضيب "آما"، الإله الخالق الذكر الذي خلقها. "هل تنشأ التنويعات العديدة لقطع العضو التناسلي الأنثوي من الخوف والحسد، وهل هذا هو السبب ذاته وراء وجوب ممارسة السلطة على المهبل ودم الحيض وغشاء البكارة؟ هل يعمل الدليل المفترض على أن "الرجال لديهم القوة لجعل النساء ينزفن من المهبل" كوسيلة لتهدئة مخاوفهم"؟ تتساءل شيبر.
تعمد صاحبة "المكشوف والمحجوب" في مؤلفاتها المختلفة، على اقتفاء أثر مواضيعها بصورة موسوعية، عبر ما رسخته الإنسانية من تراث مادي ومعنوي، وما استجد عليه من أطروحات علمية تفنده، ثم تعيد طرحه وفق تصور جديد أكثر تحديدًا وتماسكًا مما بدا عليه قبل ذلك في صورته المفردة والتائهة بين المعارف المختلفة. وفي "تلال الفردوس"، الذي نقله للعربية الشاعر المصري عبد الرحيم يوسف، تستدعي "شيبر" تاريخ الجسد الأنثوي عبر الأساطير والأبحاث الأنثربولوجية وما دوّنته هي نفسها من خلال تدريسها علم الاجتماع في إفريقيا على مدار سنوات طويلة، وما احتوى عليه المنجزين التشكيلي والأدبي منذ العصور الوسطى، وصولاً إلى الأغاني الجامعية الدارجة وما أنجزته حركة "Me too" مؤخرًا. وذلك في 12 فصلاً موزعة بين ثلاثة أبواب، ترصد فيهم تحول المكانة الأنثوية إلى الخضوع، وصور استقلالها المقدس أو تبعيتها الجسدية عبر التاريخ، وأثر ذلك في مكانتها الراهنة، وما ارتكبه الرجل "ببطء لكن بثقة" من استيلاء على أنشطتها المانحة للحياة، وما خلّفه ذلك من علاقة مرتبكة بأعضاء جسدها الأنثوي، بدءًا بأثدائها المقدسة، التي استقى منها الإله العبري اسمه "إيل شادَّاي" الذي يعني وفق الترجمة الحرفية "إله له ثديان"، مروراً بإسباغ صورة الأم المرضعة على يسوع ومريم، اللذين طمست كنائس العصور الوسطى كل ما يحيل إليهما، وانتهاءً بالولع الجنسي المتزايد بـ"إرضاع الكبير" في ثقافات معاصرة ومناطق مختلفة من العالم، واختصار صورة الثدي في وظيفته الجنسية فقط. وكذلك أفردت الباحثة الهولندية في كتابها، جانبًا كبيرًا لكل ما يتعلق بالمهبل، حرًا وخاضعًا للسلطة الذكورية، ومهدِّداً لها في الوقت نفسه.
(*) صدر الكتاب عن دار صفصافة بالقاهرة.