على أبواب مونديال 2018: كرة القدم النبيلة (2-2)

أحمد شوقي علي

الإثنين 2018/06/04
في 30 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1998، عندما أدرك مارادونا عامه الثامن والثلاثين، أنشأ عشاق النجم الأرجنتيني، احتفالا بعيد ميلاده، كنيسة كاثوليكية، في مدينة روزاريو، أطلقوا عليها اسم "إيغليسيا مارادونيانا" أي الكنيسة المارادونية، التي ستروج لاحقا لمعتقد جديد، توفيقي، يجمع بين العقل الذي يؤمن بالمذهب الكاثوليكي المسيحي، والقلب الذي يدين بالحب لمارادونا، تحت شعار: "لدي دين عقلاني، وهذه كنيسة كاثوليكية، ولدي دين يتملك قلبي، وشغفي، وهو دييغو مارادونا"!

وقبل ذلك بثمان وأربعين سنة، في 16 يوليو من العام 1950، وبسبب غياب هذه النوعية من الكنائس، في ما يبدو، لم يستطع القلب الذي يدين بحب كرة القدم، أن يتحصن كفاية، حيث كانت نهاية مباراة البرازيل وأورغواي، في المونديال، "أشبه بسكتة قلبية"، حرفيًا، "فقد توفى ثمانية أشخاص في أوروغواي بالسكتة القلبية الناجمة عن النتيجة العظيمة: خمسة أثناء المباراة، وثلاثة بعد صافرة النهاية. بالإضافة إلى مائة وتسعة وستين شخصًا آخرين "عانوا من مشاكل في القلب. نُقل ستة منهم إلى مستشفى قريب وهم في حالة خطيرة"، فضلًا عن مائة حالة انتحار في كل أنحاء البلاد، حسبما أفادت تقارير الشرطة.

وبعيدًا عن كل هؤلاء (جغرافيا وزمنيا) انساق مشجع كوري جنوبي، كان يؤازر منتخب بلاده في نهائيات كأس العالم 2002، وراء معتقده العقلي، فدهن جسده بطلاء سائل قابل للاشتعال وأضرم النيران في نفسه، كي يستحيل شبحًا، فيصبح اللاعب رقم 12 على أرض الملعب لمساعدة منتخب بلاده على بلوغ النهائيات، لكن مشجعاً آخر هو الجنوب إفريقي، موريس ماير، بدا أنه يسير وراء باعث أكبر، ربما احتاج بلوغه أن يثق في كل شيء سبق وأن أمن به، إذ ألقى بنفسه في عرض بحيرة مليئة بالتماسيح من أجل الحصول على تذكرة وحيدة لمباراة نهائي مونديال جنوب إفريقيا 2010، من فئة الـVIP، وبالرغم من أن التذكرة كانت لشخص واحد فقد، اصطحب موريس زوجته معه لكي تصبح فرصتهم في الفوز أكبر، إن هو لم يستطع النجاة والتهمته التماسيح.

ما الذي يجمع بين كل هؤلاء؟ كرة القدم.

ولكن كيف يعشقونها إن بدت على تلك الصورة من القبح، التي أوضحناها في مقال سابق؟

إن أي متابع لا يعتبر للجمال في لعبة كرة القدم، يدهشه استلابها لعقول الجماهير، لكن عاشقًا متيمًا بها، ربما لا يدرك أن تاريخًا متراكمًا من النبل والبطولة؛ يتجاوز الزمن ليظهر عبر مراوغة مدهشة يقوم بها أحد اللاعبين أو هدفًا رائعًا يسجله أحدهم، هو ما يربطه بتلك الرياضة، وليس أي شيء آخر.

ولعل هذا التاريخ النبيل للعبة الشعبية الأولى في العالم، هو أبرز ما يتعرض له كتاب "أغرب الحكايات في تاريخ المونديال"*، للصحافي الأرجنتيني لوثيانو بيرنكي، إذ يكشف أن الكرة منذ انطلاق أول مسابقة لكأس العالم –وقبل ذلك بكثير- وهي تُظهر "يوميًا أنه لايزال هناك أمل، وأن فساد السلطة (لا يستطيع) أن يلوث دومًا الشغف أو الحب أو النبل".

خلال الفصول العشرين للكتاب -الذي جاء في 391 صفحة من القطع المتوسط- والمقسمة تبعًا إلى تواريخ المسابقة، التي انطلقت للمرة الأولى في أورغواي عام 1930، وتوقفت لمدة 12 عامًا، بعد نسختها الثالثة التي أقيمت في فرنسا عام 1938، بسبب الحرب العالمية الثانية، لا يتتبع لوثيانو الأحداث والقصص التي شهدتها كل مسابقة على حدة، فحسب، وإنما يرصد كذلك الأحداث المثيرة التي شهدتها التصفيات المؤهلة لنهائياتها، وأثر تلك الوقائع على جمهور المونديال داخل إطار الإقليم الذي شهد انطلاق فعالياته، وخارجه في غيره من بقاع العالم، في بناء يستقي قوامه السردي من الرواية، ليس لأن مادته الرئيسة هي القصص، ولكن لأن المؤلف استخدم بنية تعتمد التشويق من خلال سرد دائري، مكنه من ربط الحكايات المتباينة زمنيًا وجغرافيا، فجعلها كقصة واحدة، عنوانها تاريخ المسابقة، حتى تكاد بعض النصوص تفقد كثيرًا من قدرتها على التأثير في المتلقي إن فصلت من سياقها السردي، وعرضت كقصص منفردة.

ولا يكشف ذلك التاريخ الذي يسجله الصحافي الأرجنتيني، سوى عن شيم البطولة التي تتحلى بها "الساحرة المستديرة"، ليس لأن الجماهير واللاعبين تحلوا بالنبل على السواء في مواقف كثيرة، وإنما لأن هذه الرياضة الساحرة، ما كان لها أن تصير ما هي عليه الآن لولا تلك التضحيات والصعوبات العظيمة التي قام بها العشرات من اللاعبين العظام.


لنسرد القصة من البداية.

حرفيًا، لم تكن كرة القدم تجري بتلك السهولة التي تجري بها اليوم على أرضية الملعب، كان لاعبو النسخة الأولى من كأس العالم اضطروا لارتداء قلنسوة لحماية رؤوسهم من ثقل وزنها، ولم تكن تلك أزمة اللاعبين الوحيدة لممارسة شغفهم الأهم، فبعد أن نجح الفرنسي جول ريميه، أول رئيس للاتحاد الدولي لكرة القدم، في تنفيذ حلمه، بتنظيم كأس العالم في أورغواي في العام 1930، لأنها وعدت بتكفل كافة مصاريف سفر وإقامة الفرق، واجهت المنتخبات الدولية أزمة أخرى، وهي التفرغ شهرين على الأقل للسفر وخوض النهائيات، وكاد مواطنو ريميه أن يتخلفوا عن المشاركة في البطولة، لعدم قدرة مدربهم غاستون بارو على إيجاد لاعبين قادرين على التفرغ طوال تلك المدة، واستطاع بصعوبة أن يجمع "ستة عشر لاعبًا على استعداد للسفر إلى عاصمة أورغواي؛ فالهداف لوسيان لوران، مثلا، سافر بعد الحصول على تصريح من مديري شركة السيارات "بيجو" التي كان يعمل لصالحها، أما مارسيل بينيل فقد كان هو أيضًا جنديًا ولم يتمكن من الانضمام إلى المنتخب إلا بعد الحصول على إذن من كبار الضباط لأنه "يمثل الأمة". ولم ينل آخرون الحظ نفسه وعلى رأسهم غاستون بارو مدرب المنتخب الذي كان يشغل، إلى جانب التدريب، منصب أمين عام المعهد القومي للموسيقي في باريس"!


ولم تكن فترات التفرغ الطويلة العائق الوحيد أمام مشاركة الفرق في نسخ كأس العالم المختلفة، فكان نقص التمويل معضلة كبيرة، حتى أن بعض المنتخبات الوطنية كانت تضطر في أحايين كثيرة لاقتراض قمصان لعب من الفرق المحلية في البلاد المضيفة لكأس العالم، في حال تطابق ألوان زيها مع ألوان الفريق المنافس، ورغم مرور 28 عامًا على النسخة الأولى من كأس العالم، إلا أن الأحوال لم تتحسن، وكاد الهداف الفرنسي جاستين فونتين أن يفقد مكانه في التشكيلة الأساسية لمنتخب بلاده، لأن حذاءه الوحيد قد قطع خلال التدريب، لولا أن زميله في المنتخب ستيفان بروي آثره على نفسه فأعاره حذاءه، ليتخلف الأخير عن اللعب في البطولة، وبعد تلك الواقعة بست مباريات، أعاد فونتين (هداف البطولة برصيد 13 هدفًا) لبروي فردتي الحذاء بعدما سجل بهما 12 هدفا، 7 باليمنى و5 باليسرى، أما الهدف الثالث عشر فجاء عبر رأسية.


إن تلك الرغبة في اللعب، أو "إيثار" بعض اللاعبين على أنفسهم من أجل زملائهم أو منتخباتهم، تتبدى في صور كثيرة، ومنها –مثلا- أن نجم المنتخب البولندي أرنست فيلموفسكي، رفض خلع أحد أضراسه، الذي أصيب بشدة، لكي يلحق بمباراة منتخب بلاده أمام البرازيل في مونديال 1938، لأن هذه العملية كانت تعني إلزامه بالمكوث نحو يومين أو ثلاثة دون ممارسة أي مجهود بدني لتفادي حدوث نزيف، وفي الوقت نفسه عانى الهداف البرازيلي ليونيداس دا سيلفا من التهاب قوي في الأذن، كان يستلزم البقاء في الفراش، لكن اللاعبين شاركا في المباراة، متناسين كل ألامهما الجسدية، وسجل فيلموفسكي أربعة أهداف لمنتخب بلاده، فيما هز ليونيداس الشباك ثلاث مرات في النزال المثير الذي فاز به الفريق اللاتيني بستة أهداف مقابل خمسة، حتى إن ليونيداس سجل أحد أهدافه "حافيًا"، فقد لُعبت المباراة وسط عاصفة قوية جعلت أرض الملعب أشبه ببحيرة من الطين وبين هجمة للفريق البرازيلي وأخرى انخلع حذاء ليونيداس وسط الطمي، لكنه أكمل اللعبة وانتهى به الأمر إلى أن أرسل الكرة نحو الشباك بقدمه المغطاة فقط بجوربه، وبالرغم من ذلك رفضت الإصابات أن تترك ليونيداس في سلام، ففي هذه المباراة الصعبة تعرض لضربة قوية في الرأس بعدما اصطدم بقائم أحد المرميين بالإضافة إلى عدوى في العين بسبب الجير المستخدم في رسم الحدود بالملعب.


وربما تُبرز الواقعة السابقة شغف اللاعبين بالكرة، أكثر من تحليهم بالشجاعة، لكن حادثة أخرى شهدها مونديال 1962، الذي استضافته شيلي، تعكس البطولة الحقيقية للاعبي كرة القدم، فحتى كأس العالم 1970، لم يكن الفيفا قد أدخل نظام تبديل اللاعبين، الأمر الذي كان يعني أن المنتخب لا يستطيع تغيير أي من لاعبيه فور تسليمه قائمة بأسمائهم لحكم المباراة، حتى وإن أصيب أحدهم وهو في طريقه إلى أرض الملعب قبل أن تنطلق صافرة البداية، وفي السادس من يونيو من عام 1962، فاز الاتحاد السوفياتي على أورغواي بهدفين مقابل هدف واحد، "بعد مباراة شديدة الصعوبة لُعبت في مدينة أريكا. وقد سمحت تلك النتيجة للفريق الأوروبي بالتأهل لربع النهائي وأقصت الفريق اللاتيني من المسابقة. وكان أبرز ما حدث في ذلك اليوم هو ما فعله صانع الألعاب الأورغوائي أليسيو ألباريث الذي سجل إسمه في صفحات تاريخ أبطال المونديال، إذ رفض الخروج من أرض الملعب بالرغم من تعرضه لكسر في عظم الشظية (...) وكاد يفقد ساقه نتيجة سوء العلاج والمجهود الهائل الذي بذله في تلك المباراة، ولم يحصل اللاعب على فترة راحة متكاملة فاضطر إلى انتظار ما يناهز العام لتطأ قدمه أرض الملعب من جديد، لكن في ذلك المساء البعيد في أريكا واصل ألباريث الركض ما أمكنه حتى أطلق الحكم الإيطالي شيزاري جوني صافرة النهاية"!

ومثلما يعكس التاريخ عبث العديد من الأنظمة الشمولية بكرة القدم واستخدامهم لها لبلوغ أهداف فاسدة، فإنه يسجل كذلك مواقف مشرفة واجه بها  اللاعبون تلك الأنظمة، وإن كان الثمن حياتهم في بعض الأحيان.

فبعد أن أعلن هتلر ضم النمسا إلى ألمانيا في العام 1938، استدعى جهاز منتخب ألمانيا الفني قائد المنتخب النمساوي في تلك الفترة فالتر ناوش لتقديم خدماته، لكن، لأن النظام النازي كان سيجبره على الطلاق من زوجته اليهودية، فضَّل الهرب نحو سويسرا. وكذا رفض ماتياس زينديلار خدمة نظام هتلر (...) وكان أبرز ما في تصرف ماتياس ضد النازية أنه خرج، دون أن يدين باليهودية، للدفاع عنها ووفر الحماية لعدد كبير من أصدقائه اليهود ووصل به الأمر إلى شراء حانة أحدهم حتى يمنع الألمان من مصادرتها".

ولم يكن النمساويون وحدهم الذين رفعوا لواء مناهضة الديكتاتورية، ففي عام 1978، رفض عدد من لاعبي منتخب هولندا، ومنهم يوهان كرويف، نجم برشلونة الذي يعتبره البعض أفضل لاعب في حقبة السبعينات، ورود غيلز مهاجم أياكس وهداف ذلك العام على الصعيد المحلي في هولندا، وإيدي تريتيل حارس فينورد، ويان فان بيفيرين وويلي فان دير كويلان وكانا نجمين في خط وسط فريق بي إس إيندهوفين، المشاركة في البطولة التي استضافتها الأرجنتين بسبب الانتهاكات المريعة التي قام بها الديكتاتور خورخي فيديلا ضد حقوق الإنسان.

ومثل نجوم الكرة كان الجمهور حاضرًا، ليسجل موقفه ضد الاستبداد، ففي السابع عشر من يونيو من العام 1958، لعبت المباراة التي شهدت أضعف حضور جماهيري في مونديال السويد بين ويلز والمجر، إذ لم يحضرها سوى ألفين وثمانمائة وثلاثة وعشرين شخصًا، بعد دعوة مقاطعة أطلقتها منظمة إنسانية سويدية ضد المجريين لأن النظام الشيوعي المسؤول عن الحكم في البلد الأوروبي أعدم زعيم التمرد المسلح الذي انتفض ضد الاحتلال السوفياتي".

في فيلم مارادونا، يقول المخرج الصربي أمير كوستاريكا، إنه في مباريات كرة القدم، "يمكن أن تؤثر على العالم وعلى قدرك الخاص من دون مال في جيبك أو قنبلة ذرية"، لكن هذا الانتصار العالمي في الكرة قد لا يحتاج إلى منتخب قوي مثل منتخب الأرجنتين الذي قاده مارادونا لهزيمة التاج البريطاني في عام 1986، فحتى أضعف المنتخبات في تاريخ كرة القدم على مستوى العالم وعلى مر العصور، يمكنها أن تدركه، حيث استطاع منتخب سان مارينو، أن يدخل التاريخ، خلال التصفيات المؤهلة لكأس العالم 1994، بعد تسجيله أسرع هدف في سجل تصفيات كأس العالم، وذلك بعد 8 ثوان فقط على صافرة البداية، وفي شباك القوة العظمى ذاتها، إنكلترا.

يصف كوستاريكا مثل تلك المواقف بقوله: "يمكن لأمم صغيرة أن تنتصر بشكل ملحمي على القوى الأعظم، وأنت تنتقم انتقاماً جميلًا"، ولعل هذا الوصف الشاعري "الانتقام الجميل" الذي صاغه المخرج اليوغسلافي، لا يتحقق أبدًا في أي مكان آخر سوى المستطيل الأخضر، فكرة القدم وإن قبّح الفساد صورتها، ستظل الحرب الأكثر شرفًا وإنسانية وجمالا من أي حرب أخرى.

(*) صدر الكتاب في طبعة مشتركة عن دار مسعى ومكتبة تنمية، وترجمه عن الأسبانية مباشرة بصورة موفقة المترجم المصري محمد الفولي، الذي كثيرًا ما تدخل لإيضاح المصطلحات والأسماء اللاتينية الغامضة أو غير الشائعة في الهوامش.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024