جاكلين سلام...كورونا تايمز وترجمانة المشافي وحفيدة تسكن الهاتف

المدن - ثقافة

الجمعة 2020/05/08
حين حلّت لعنة الكورونا على مدينة تورونتو، أكبر المدن الكندية، أصبحتُ جدّة لطفلة صار عمرها 6 أسابيع ولم أرها بعد. حين حل الفيروس علينا، كان عملي في حقل الترجمة الفورية في أوجّه. أعمل في المستشفيات مع المرضى الذين لا يستطيعون التواصل بغير العربية، وكذلك في دائرة الهجرة واللجوء والمحاكم. بالإضافة الى العمل في ملاجئ النساء المضطهدات. جاءت الصدمة، وبلا مقدمات، فقدتُ عملي مثل غالبية الكنديين، وعدنا الى مجرد مستمعين لنشرات الأخبار والتوصيات والاحصائيات. زوجة رئيس وزراء كندا، صوفي ترودو كانت في الحجر الصحي وتعافت. عدنا الى الجدران حتى إشعار آخر. الالتباس شديد والحاجة الى الآخر تتبلور الآن بعنف لا يرحم. يبدو أننا لم نفقد حسّنا الإنساني الاجتماعي، رغم أننا نعمل مثل الآلات في هذا الأمكنة والعمارات المعلقة في سماء المدينة. 

أنا شخصياً أحب الطين، وعلاقتي بالأرض والطبيعة متأصلة في شراييني. تملّكني الحنين الحقيقي، والرغبة في أن تتلوث قدماي بالعشب والتراب والرمل، لكن بلدية تورونتو وضعت إشارات تحذير تمنع التواجد في الحدائق الصغيرة المنتشرة حول أي تجمع سكني. بعد شهر من الحصار، خرجتُ وفي نيّتي أن أسرق لحظة في حضن الأرض لأنني لا استطيع احتضان رجل أو طفل أو عجوز. احتضنتُ الشجرة وتمرغت بالعشب وجلست وجهاً لوجه مع شمس. تأملت وسمعت أصوات العصافير وأنا أمنع العصافير والهواء من سماع بكائي الجواني. ومنعت دموعي من السقوط. الحنين الى التراب والطبيعة الذي يجعلني هشة وأكثر من غريبة. الطين شريكي في الرغبات والتحولات. الأرض الآن مهجورة ولربما، تحن لأقدام عشاقها الذين وُضعوا في ما يشبه السجن، كطريقة لتحدي الفيروس. نلعب لعبة الاختباء، لكن بكراهية لهذا الفيلم وبطله (كورونا). سأكتب قصة قصيرة أقتل فيها هذا البطل، وأخرج منتصرة الى حضن من أعشق في هذه المعمورة.

الترجمة في غرفة مريض من الشرق
في آخر جلسة عمل لي في المشفى، بداية شهر آذار الماضي، التقيتُ مريضاً في قسم معالجة السرطان. كنت أترجم للأب الذي كان يشرف على رعاية ابنه الصغير المصاب بالسرطان في إحدى أكبر مستشفيات المدينة. من لهجته، عرفت انه سوري الأصل ثم انتبهت الى "كأس المتة" المركونة في زاوية الغرفة. كانت الطبيبة تعطيهم التعليمات وتجيب على أسئلة الأب. لم يكن حينها الوباء قد بلغ أشدّه.

خرجت من هذا القسم لأجد رسائل صوتية من الشركة التي أعمل فيها، للالتحاق بالترجمة في قسم آخر في المشفى نفسه لأمر طارئ. المشفى ضخم وسهل أن يضيع فيه المرضى، أخذتُ التعليمات وذهبت الى الجهة المعنية. هناك وجدت عدداً من الممرضات يرتدين العدّة الكاملة للوقاية من الفيروس، أعطوني قناعاً وقفازات وثوباً خاصاً بالممرضين. سألتهم لماذا كل هذا الحذر؟ أجابت أحدى الممرضات "يشتبه في وجود فيروس في القسم".
 
أصبتُ بالهلع لأني لم أكن مهيأة نفسياً ولا مهنياً للعمل في هذا الموقع. ولم يكن أمامي سوى قبول المهمة لأن العائلة في حاجة الى خدمة المترجم في هذا الوقت المخيف. أخذت الطبيبة تشرح لهم الخطة التالية. وأصر الوالد أن يقاطع المترجمة مرات، وهو يكثر من الدعاء أو الشكوى من الطبيبة الأخرى والمترجمة الأخرى التي زارتهم في يوم سابق. ثم يختم بالقول: "الأمر بيد الله، لا غير ونحن نثق بالله ومقدرته على الشفاء".

انتهى عملي لكن الخوف بقي في داخلي، والقلق من شبهة التعرض للفيروس. بعدها بأيام، حدثت الهزة الكبيرة، والإيعاز بأن على المترجمين البقاء في البيت كما غالبية الكنديين، على أمل ان تبدأ "الترجمة من بعد عبر الهاتف أو الفيديو" كمرحلة انتقالية. وانشغلت بدورات تدريبية (اونلاين) للترجمة من بعد. الميديا والأخبار تتحدث عن "الوضع الجديد الذي سيصبح هو المعتاد". وحتى اللحظة، لا يمكنني تخيل "القفزة الجديدة في حقل العمل في المدن الكبرى. أشعر أننا سنصبح مثل كائنات أفلام الخيال العلمي بعد حين. والانكسار العظيم يقع على أرواحنا الهشة، نحن الذين نكتب الشعر والأدب، ونخوض في سراديب النفس في أقسى تحولاتها وأكثرها حميمية واغتراباً. 

أفكر في حال المهاجرين الذين لا تسعفهم لغتهم على التواصل مع الدوائر الحكومية والطبية والخدماتية الاجتماعية خلال فترة الحجر الصحي. رغم حرص بعض الدوائر على الانتقال للترجمة عبر الهاتف في بعض الحالات.

لغة غرفة التوليد
حقل الترجمة تضرر، كما الأعمال الصغيرة الأخرى والمطاعم وبرامج الترفيه والموسيقى والسينما، الخ. وكمن يصطم بجدار لامرئي، أصبنا بكابوس شمولي كوني. عدنا بهلع وضجر وانكسار، نقفل الباب على أنفسنا حتى إشعار آخر- منذ منتصف آذار 2020 ولغاية تاريخ كتابة هذا النص، الأسبوع الأول من أيار 2020. ويسمح الخروج من البيت فقط للتسوق وشراء الأدوية أو المشي، والمسافة بين شخص وآخر يجب أن تكون مترَين. الزيارات ممنوعة بين الأجداد والأحفاد والأولاد. المخالفة القانونية يفرضها ضباط البوليس الذين يجوبون الشوارع في السيارة وتتراوح بين ألف وألفي دولار. التزمت بمكاني، حيث أعيش وحدي في شقة لها شرفة شرقي تورونتو. لا أريد أن يصبح لدي سجل جنائي بسبب رغبتي في احتضان صديق أو صديقة أو ابني.
 
سمعت قصة لزميلة تعمل مثلي في الترجمة الفورية، كان عليها ان تكون مع امراة حامل، وفي مخاض طويل، وفي وضع صحي خطير، في قمة تفشي الفيروس في اونتاريو-كندا. المترجمة في أشد القلق، وفي الآن ذاته لديها الرغبة في أن تخدم المريضة في تلك الساعة العصيبة. 
توقفت الأشغال كلها تقريباً، ولم يتوقف الإنجاب وممارسة الجنس والحمل. اللافت للنظر أن اللاجئين الجدد يكثرون من الأطفال وينجبون أكثر مما يحتمل وضعهم الصحي والمادي.

وأصبحتُ جدّة مع وقف الاحتضان 
الحياة تولد في ضفة، والموت يقطف المئات هنا وحول العالم. كنت وابني الوحيد، سلام، وزوجته، ننتظر ولادة الطفلة بشغف وخوف في نهاية آذار، قمة انتشار الفيروس في المدينة. كنت على الهاتف أترقب كل رسالة تصلني من ابني، ليخبرني عن تطورات الوضع في غرفة التوليد. لم يُسمح لغيره بالبقاء معها في المشفى. في الصباح الباكر، وُلدت الطفلة معافاة هي وأمها، وكانت الفرحة مخلوطة بالدموع والشوق لاحتضان هذا الكائن الصغير الذي حلمنا بانضمامه الى عائلتنا التي هي خليط سوري- كندي. 

حين استلمت صور حفيدتي، بكيت وضحكت بين الجدران في الصباح الباكر. خرجت الى الشرفة لعلّني احتضن الأشجار البعيدة وأنا أبكي وأنظر الى العالم وهو يغطس فجراً في النوم والصمت والعزلة. التقطت صوراً للشرفة، وصورة لوجهي ملتبس المشاعر في تلك اللحظة الاستثنائية. أرسلتُ الصورة والخبر الى أخواتي في السويد، فكتبت أختي: "مبروووك، بس ليش حزينة وبكيانة –وإذا صرتي تيتة ختيارة!" 

كل يوم أنتظر فيديو قصيراً أرى فيه حركات الطفلة، شفتيها وأصابعها ووجهها الصغير الجميل. أفكر في أي لغة سنتكلم أنا، وحفيدتي أنّا، العربية أم الانكليزية. أكتب بعض السطور عني وعنها في مفكرة كلمات بالانكليزية ثم بالعربية، مجرد تأريخ لانفعالاتي كجدّة في الكورونا تايمز. 

الترجمانة والكتابة الإبداعية 
قبل انتشار الفيروس وفي مدينة تورونتو، لم يكن لدي وقت للكتابة كما أرغب بسبب العمل والحاجة لتأمين لقمة العيش ودفع فواتير الايجار وما إليه. كانت مشاريع عديدة تنتظر في الكومبيوتر. بعد الأسبوع الأول من الصدمة، حيث قمت بتعزيل البيت والعودة الى الصورة والأوراق السجينة في الأدراج. مزقت الكثير، وأخرجت ثياباً من الخزانة للتبرع. استقرت روحي ووضعت للقلق حدوداً. قررت أن أنجز مجموعتي القصصية وأطلقها للنشر قريباً. ثم بدأت بالعمل على انهاء مهمتي في ترجمة أدب الهنود الحمر- الكنديين الأوائل، والذي نشرت الكثير من قصائده في الصحف العربية منذ سنوات. الآن سأبحث عن ناشر وأعرف أن هذا الوباء سيؤثر في دور النشر والعلاقة مع الكتّاب بشكل عام.

الشيء الذي لاحظته، في هذه العزلة، أني ابتعدت من الخوف من الرقيب. كتبت بحرية أكثر، على فرض أن الموت قادم، ويجب ألا أموت ولدي رغبات كثيرة غير مؤرخة. لا أريد أن يفاجئني الموت، وليس في يدي إلا يدي والكلمات التي أريدها كتاباً يصل الى يد أخرى في آخر العالم. كنت قبلها بشهر اقرأ في كتاب بعنوان: "متّ فارغاً"، محوره يدور حول "كيف تحقق هدفك وتنبش ما في داخلك قبل الوصول الى خط الموت. وحين يأتي الموت ستكون قد عشت بقوة وافرغت كل ما في قلبك وعقلك من تطلعات وأهواء". شخصياً، لا شيء يساعدني على التحقق أكثر من الكتابة. سأكتب حتى وإن توقفت كل الصحف والمواقع ودور النشر.
 
لقد كتبت في البيت ملاحظات الى نفسي، وعلقتها على الباب والشباك والمرآة والبراد تقول: ابتسمي، انت في البيت. ابتسمي كي تخف التجاعيد حول فمك وعينيك ايتها الجدة العاشقة للحياة والمحبرة الأنثى. ابتسم يا صديقي واكتب بحرية أعلى وافتح باب قلبك للغد. 

(*) جاكلين سلام، شاعرة وكاتبة ومترجمة سورية كندية. صدرت لها 5 مجموعات شعرية، ونشرت مئات المقالات النقدية والأدبية في صحافة العالم العربي. تقيم في تورونتو كندا منذ ربع قرن. والنص شهادة كتبتها عن يوميات كورونا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024