رسمُ فان لاندن: جميعنا عُراة منّا

روجيه عوطة

الخميس 2019/05/23
يصعب على المرء ألا يُعجب بأعمال آن فان دي لاندن، التي استقبلتها "شقة مادلين" في "سانت وين". فهذه الفنانة المغبونة التي أتت من بريطانيا إلى باريس في بداية ثمانينات القرن المنصرم لتتعلم الرسم، لم تحتمل أكاديمية الفنون الجميلة، وسرعان ما هجرتها، منصرفة إلى تحصيل منفرد، حملها لاحقاً على الالتحاق بجامعة "باريس الثامنة"، واختيار ضاحية سان دوني مسكناً لها. هجرة لاندن لصفوف الرسم، جعلها تتقنه على غير اتقانه من قبل زملائها، بحيث لم تسنده بمعايير المؤسسة، بل شيدته على ممارسته التي لا تزال غزيرة وحية. وهذا، حتى لو أنها قد تبدو، حالياً، قرينة التكرار، وموضوعه لوحة يمكن التعرف عليها وعلى صاحبتها من بعيد. ففي بعض الأحيان، يكون هذا التكرار دليل تمكُّن يعني وصول التجربة إلى قصدها، إلى أسلوبها، وتحقيقها له.

فحين هُمّش الرسم في عالم الفن، وأُبعد، أدى ذلك إلى احتلاله بتصوّر عنه، مفاده أنه لم يعد رجاء لإفلات الخيال. لذا، وعن هذا التصور، نتج رسم ماضوي، يريد احياء ما تجاوزه ذات مرة، أي النزوع إلى تمثيل ما يسمى "واقع"، ونسخه على تفصيل ودقة. إلى جانب هذا الرسم، هناك رسم مسكون بإرادة ما، سمّاها السوق "المعاصرة"، وقد سجلها هذا الرسم على بطلانها من معنى، وانقلابها، لا إلى خربشة، بل إلى التظاهر بها أو محاكاتها. بين هذين الرسمين، وهما يتفقان على النظر بدونيّة إلى مزاولتهما كتَلوين، يستمر بعض الفنانين في الإيمان بالخط ومفعوله، الذي، وعندما أُقفلت في وجهه الغاليرهات، علموا بأن هذا الاقفال هو فرصته للبقاء على قماشةٍ، كانت صلته بها قد بدأت تنتهي.
 

آن لاندن، واحدة من هؤلاء تحديداً، وهي ربما كانت الأكثر تنبهاً إلى أن الرسم عليه أن يدخل إلى تلك القماشة، ويقع فيها، قبل أن يعود إلى سطحها. هذا التنبه حضها على اعتماد أمر بعينه، أي اعتماد موضوعة الأجساد، التي، وفي البداية، كانت ممزقة. "لزيارة جوانيتنا، لا بد من السكين"، تقول. وفي ما بعد، التحمت، لتصير عارية، لكنها، في المرحلتين، ظلت في الجو نفسه. قوام هذا الجو، ذلك الخيال، الذي، في الراهن من أيامنا، ما عاد أحد يذكره، بفعل الوهم على الأرجح، في أثناء الحديث عن الإبداع، والذي يبني دنيا موحشة ومتوحشة، تظهر بعيدة وغريبة لسبب أساسي، وهو أنها موجودة هنا والآن.

مخلوقات دنيا لاندن هي جميعنا تقريباً. جميعنا في حين تناولنا للطعام، في حين ممارستنا الجنس، في حين تكلمنا، في حين نومنا، في حين انتظارنا، في حين موتنا، في حين كسلنا، في حين غضبنا، في حين كذبنا، في حين اهتمامنا بأولادنا، في حين ملاطفة أغيارنا... جميعنا كما نحن في كل الأحيان: عراة منا، وفي وشك اقتراف مقتلة أو تعرضنا إليها. لهذا، دنيا لاندن دموية، بإصرار واغتباط يؤديان إلى مزيد من تبادل الألم.

قد تكون لاندن فنانة ايروتيكية، أو بالأحرى إنطباعية بباع ايروتيكي، هذا صحيح. لكنها، في الجهة الرئيسية، أو الخامسة على اسم موقع شعري عربي راحل، هي فنانة الأجساد المضبوطة في مشاعرها، في حركاتها، في ملامحها، في عيونها، في جلدها، وطبعاً في أدوارها اليومية. وهذه الأجساد، ومن فرط ضبطها، صارت تفلت مع ما كانت تعتبره في السحيق من الزمن أنه يتقاسم معها وجودها، أي الشياطين والعفاريت على أنواعها، فتستدعيها بعد طردها، وتحتمي بها. ثم أنها، وفي الكثير من أوضاعها، تتحول إليها، علّها بذلك تنتشل نفسها مما هي فيه، أي قمعها، الذي، وفي ظن أصحابها، هو تحرر، ومن شدّته، يقضي عليهم. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024