بحثاً عن أسمهان..سيرتها اللامعة كالشهاب والقصيرة كعمره

محمود الزيباوي

الأحد 2018/07/29
 
دخلت أسمهان عالم الفن من الباب الواسع في سنة 1931 حين تبنتها شركة أسطوانات "كولومبيا"، وأنتجت لها سلسلة من الأغاني لحّنتها كوكبة من كبار الملحنين، لكنها احتجبت بسرعة بعد هذه الانطلاقة المميزة، وغابت عن الفن سنوات عدة. قيل الكثير في تفسير هذا الغيبة، إلا اننا لا نجد تفسيرا مقنعا لها حتى اليوم.


تقول الرواية الشائعة ان شقيق اسمهان الأكبر فؤاد، سافر إلى جبل الدروز سنة 1933 وهو في السابعة والعشرين، وسانده هناك ابن عمه الأمير حسن. وسعى فؤاد إلى قطع مشوار أخته الفني لإنقاذ مكانة العائلة، واستطاع أن يبعدها إلى دمشق، ثم إلى الجبل، حيث اقترنت بابن عمها وأنجبت منه ابنتها الوحيدة كاميليا، ثم انفصلت عنه، وعادت إلى القاهرة في 1937 لتكمل فيها مشوارها الفني. ويُمكن القول إن هذه الرواية تحتاج إلى شهادة صحافية من تلك الفترة تدعمها وتؤكدها، قبل الأخذ بها بشكل مطلق.

في استعادته لمسيرة شقيقته، اعتبر فريد الأطرش ان زواج أسمهان من الأمير حسن تمّ بعد فيلم "انتصار الشباب"، ونقل فوميل لبيب هذه الرواية في كتابه "لحن الخلود"، واعتبر أغلب البحاثة ذلك "خطأ واضحاً" كما أشار فكتور سحاب في كتابه "السبعة الكبار". الأكيد، أن أسمهان عادت إلى القاهرة لتشق من جديد مشوارها في عالم الفن والغناء، وظلّت تُعرف بلقب "الآنسة" وليس "السيّدة". بعد "كولومبيا"، تبنّت شركة "بيضافون" الصبية العائدة إلى ساحة الغناء، وأطلقت "الآنسة أسمهان"، ووصفتها بـ"أصغر المطربات سناً وأعذبهن صوتاً"، كما تقول إعلانات اسطواناتها. في بداية هذا التعاون، أصدرت الشركة أربع أغنيات. اثنتان منها من تلحين فريد الأطرش، وهي "المحمل" (عليك صلاة الله وسلامه) من تأليف بديع خيري، و"رجعت لك يا حبيب" من نظم يوسف بدروس، واثنتان من تلحين محمد القصبجي، وهي "فرّق ما بينا ليه الزمان" من نظم علي شكري، و"يا طيور" من كلمات يوسف بدروس.

استمرّ هذا التعاون، وسجلت أسمهان لحساب "بيضافون" من تلحين شقيقها فريد، "نويت أداري ألامي" كلمات يوسف بدروس، ومن تلحين القصبجي قصيدة الشاعرة الجاهلية ليلى العفيفة، "ليت للبراق عينا"، وقصيدة بشارة الخوري "اسقنيها بأبي أنت وأمي"، وطقطوقة "فرّق ما بيننا ليه الزمان" من كلمات علي شكري. كما سجلت من تلحين مدحت عاصم "دخلت مرة في جنينة" من كلمات عبد العزيز سلام. وغنّت كذلك أغنية أخرى من إعداد مدحت عاصم، "يا حبيبي تعال الحقني"، وهي في الأصل لحن أجنبي قُدّم في فيلم "زوجة بالنيابة" الذي قامت ببطولته ماري كويني.

في عام 1939، سجّلت أسمهان من ألحان عبد الوهاب وكلمات بيرم التونسي "عيشة الفلاح"، كما شاركت عبد الوهاب الغناء في أوبريت "مجنون ليلى" من نظم أحمد شوقي. قُدّم العملان في فيلم "يوم سعيد" عام 1940، غير أن أسمهان لم تظهر على الشاشة إلّا صوتاً. في 17 آذار/ مارس، احتلت صورة المطربة الشابة غلاف مجلة "الراديو" في بيروت، مع تعريف مرافق يقول: "الآنسة أسمهان الأطرش. ننشر رسمها لمناسبة نجاحها الباهر، وان لم تظهر في فيلم "يوم سعيد"، وقد ضربت الرقم القياسي بجودة الغناء وحسن التعبير في القطعتين الخالدتين: قيس وليلى، ومحلاها عيشة الفلاح". ويتّضح هنا أن اسمها بقي "آنسة" في القاهرة كما في بيروت.

دخلت أسمهان الإذاعة المصرية، ونشرت مجلة "الراديو المصري" صورتها لمناسبة تقديمها مع فرقتها في 12 حزيران/ يونيو حفلة غنائية غنّت فيها طقطوقة "أعمل ايه علشان انساك" من كلمات يوسف بدروس ولحن فريد الأطرش. وأدّت أغاني أخرى، منها قصيدتان طويلتان سجّلتهما على الأرجح لحساب الإذاعة البريطانية، الأولى نظم أحمد شوقي وألحان القصبجي، ومطلعها "هل تيّم البان فؤاد الحمام فناح فاستبكى جفون الغمام". والثانية قصيدة "حديث عينين"، نظم محمد فتحي وتلحين السنباطي، ومطلعها: "يا لعينيك ويالي من تسابيح خيالي/ فيهما ذكرى من الحب ومن سُهد الليالي". إلى ذلك، قدمت أسمهان في تلك الحقبة من حياتها أعمالا أخرى ضاع أثرها. من هذه الأعمال المفقودة، ثلاثة ألحان لزكريا أحمد: قصيدة "غير مجد في أمّتي" من شعر أبي العلاء المعرّي، و"هديتك قلبي" من كلمات أحمد رامي، و"عذابي في هواك أرضاه" من كلمات أحمد رشدي. ولحنان للسنباطي: "قرطبة الغراء" من شعر ابن زيدون، و"الدنيا في إيدي" التي تُنسب طورا إلى يوسف بدروس، وطورا إلى محمد السعيد عبده.

في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1940، ظهرت أسمهان مع شقيقها فريد على غلاف "الراديو المصري"، وكانت المناسبة الإعلان عن فيلم "انتصار الشباب" الذي أخرجه أحمد بدرخان. في هذا الشريط، قدمت أسمهان مجموعة من الأغاني لحّنها شقيقها، وهي "كان لي أمل"، "ياللي هواك شاغل بالي"، "الشمس غابت أنوارها"، "إيدي فإيدك" و"أوبريت انتصار الشباب"، من كلمات أحمد رامي، و"يا ليالي البشر" من كلمات يوسف بدروس، "يا جمال الورد" من شعر محمد حلمي الحكيم. كانت أسمهان بحسب القانون، سورية تعيش في مصر، وتزوجت عرفياً من مخرج الفيلم أحمد بدرخان كي تحصل على الجنسية المصرية وتبقى في مصر كما يُقال، وانتهى هذا الزواج بعد أقل من خمسين يوما بسبب غيرة الزوج من شهرة زوجته وسطوع نجمها، وقيل في مقالة تعود إلى تلك الفترة: "لا ندري مكان الحقيقة في المعسكرين، ولكننا ندري أن أسمهان ساخطة هذا السخط الذي دفعها إلى الاحتفاظ بملابس زوجها الداخلية والخارجية، وإلى الآن ترفض تسليمها له".

عاشت أسمهان حياة مترفة، وعاشرت أسياد مصر في مطلع الأربعينات، ثم غابت عن الحياة الفنية، وعادت من جديد إلى سوريا لتنتحل مرة أخرى شخصية الأميرة، وظهرت في العديد من المناسبات الاجتماعية إلى جانب زوجها الأمير حسن. اللافت هنا، ان الصحافة المصرية نقلت بعضا من أخبار هذه المناسبات، وذكرت اسم "آمال الأطرش"، مكتفيةً بوضع اسمها الفني بين هلالين، وكأنها فنانة معتزلة. في 5 حزيران/يونيو 1942، تحت عنوان "رئيس جمهورية سوريا في ضيافة آمال الأطرش"، نشرت "المصور" خبرا يقول بأن الشيخ تاج الدين الحسني زار بيروت في أيار/مايو، "فأقامت له الأميرة آمال الأطرش (أسمهان) مأدبة عشاء دعت إليها رئيس الجمهورية اللبنانية والجنرالات سبيرس وهاملتون وكاترو ووزراء لبنان وسوريا".

ونشرت المجلة صورة للأميرة وسط فريق من مدعويها "وإلى يمينها الأستاذ الفريد نقاش رئيس الجمهورية اللبنانية، وإلى يسارها قرينها الأمير حسن الأطرش ووزير الدفاع اللبناني"، كما نشرت صورة أخرى لها "وهي تستقبل الشيخ تاج الدين الحسني، وقد ظهر خلفها ابن عبد الغفار باشا الأطرش".

كما في الثلاثينات، غابت أسمهان ثم عادت وظهرت فجأة من دون مقدمات. في 12 مارس/آذار 1944، كتبت مجلة "الإثنين" في زاوية "أخبار في سطور": "عادت المطربة أسمهان إلى القاهرة، وتنوي أن تمضي في مصر حوالى ثمانية أشهر. وقد قالت أم كلثوم إنها دهشت من الإشاعة التي أطلقها بعض المغرضين، وفحواها انها حاولت ان تمنع أسمهان من الحضور إلى مصر". في مطلع أيار/مايو، ذكرت المجلة ان أسمهان "أقامت حفلة ساهرة في فيلتها بالهرم، ودعت إليها طائفة من أهل الفن وعدداً من صديقاتها وأصدقائها، وكانت سهرة فنية شائقة لعب فيها على البيانو الفنان مدحت عاصم، وغنّت أسمهان مع الأستاذ محمد البكار بعض الأغاني المصرية واللبنانية وغيرها. وكان الإعجاب بأغانيهما شديدا، حتى اقترح البعض ظهورهما معا في فيلم واحد".

بعد فترة وجيزة، تبيّن أن أسمهان عادت إلى مصر لتلعب دور البطولة في فيلم "غرام وانتقام"، واحتلت صورتها غلاف "الاثنين" في أيار/مايو، مع تعليق يقول: "نجمة ستوديو مصر اللامعة، وكوكب فيلم يوسف وهبي الذي سينتجه الاستديو الآن". ضمّ الفيلم مجموعة بديعة من الأغاني، منها أربع من تأليف أحمد رامي، وهي "ليالي الأنس"، "أيها النائم"، "إمتى حتعرف"، و"نشيد الأسرة العلوية". لحّن فريد الأطرش الأغنية الأولى، ولحّن السنباطي "أيها النائم"، والنشيد الذي اشتهر باسم "بنت النيل". في المقابل، لحّن القصبجي "إمتى حتعرف"، إضافة إلى "أنا اللي أستاهل" التي كتب كلماتها بيرم التونسي. كذلك، أدّت أسمهان من تلحين شقيقها موال "يا ديرتي" من كلمات علي الخياط، و"أهوى" من تأليف مأمون الشناوي. تزوّجت أسمهان في تلك الفترة من الممثل السينمائي أحمد سالم، وعاشت معه حياة فضائحية صاخبة تناقلت الصحافة أخبارها المثيرة بلهفة. وانتهى هذا الزواج بعد فترة قصيرة بتبادل للرصاص كاد يودي بالزوج وبضابط للشرطة، كما نقلت الصحافة يومذاك.

قضت أسمهان غرقا في النيل قبل أن تكمل تصوير مشاهد الفيلم الأخيرة، وكتب الأخطل الصغير في رثائها، قصيدةً مطلعها: "أضاع جبريل من قيثاره وتراً/ في ليلة ضلّ فيها نجمه الهادي". في الذكرى الثانية لرحيلها، كتب زوج أسمهان الأخير، أحمد سالم، مقالة بعنوان "كيف كانت أسمهان من أسباب انتصار الحلفاء في الشرق الأوسط"، وروى للمرة الأولى رواية تقول إن النجمة عادت إلى سوريا في مهمة سرية تقوم على دعوة أهل الجبل لمناصرة قوى الحلفاء في حربهم على فرنسا المناصرة لألمانيا في ظل حكومة فيشي، وبدت المطربة الشابة في هذه القصة "امرأة غلب طموحها السياسي على طموحها الفني" بحسب تعبير فكتور سحاب. وبعد عامين، كتب الصحافي محمد التابعي سلسلة طويلة من المقالات استعاد فيها قصته الشخصية مع أسمهان، وسلّط الضوء على نضالها الوطني. بدوره، كتب سعيد فريحة في مطلع عام 1949 سلسلة أخرى من أربعة مقالات طويلة في "الصياد"، وقدّم رواية معاكسة كليا تعزو اختلاط أسمهان في هذه الحرب في الدرجة الأولى إلى سعيها للحصول على المال الوفير الذي يؤمّن لها حياة الترف والعبث واللهو.

ظهرت صور أسمهان التي تعود إلى تلك الحقبة بعد رحيلها بسنوات، ومنها صورة تجمع بينها وبين الجنرال ديغول، وأخرى مع الجنرال غورو، وثالثة وهي تتقلّد "وسام اللورين"، أي شارة "فرنسا الحرة". دفعت هذه الصور بعدد من الكتّاب إلى البحث عن "أسرار أسمهان: المرأة، الحرب، الغناء"، كما يقول عنوان كتاب شريفة زهور. بعدها، تبنّى مسلسل "أسمهان" الرواية الوطنية، ونسج سيرة أسمهان من حولها.

في الخلاصة، يُمكن القول إن فريد الأطرش شقّ طريقه بخطى ثابتة، وعاش لفنّه باسم واحد وقدر واحد منذ بداياته في عام 1933، إلى أن رحل عن هذه الدنيا في نهاية 1974. في المقابل، حملت شقيقته منذ انطلاقها في عالم الفن وجهين، وضاعت بين قدرين، فـ"كانت حياتها لامعة كالشهاب، قصيرة كعمره"، كما كتبت "الكواكب" حين باشرت نشر سيرتها المصورة في أيار/مايو 1957.
 
(*) الحلقة الثانية والأخيرة عن ذكرى رحيل أسمهان
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024