بعد الانفجار... كنت مسيحاً على طريقتي

حسن الساحلي

السبت 2020/08/08
1

في لحظة الإنفجار، التي لم أعرف خلالها إن كنت سأبقى على قيد الحياة أم لا، داهمتني مشاعر الندم. قلت في رأسي انها مدينة ملعونة، كان من المفترض أن اخرج منها قبل سنوات طويلة، ولا أنتظر كي يأتي الموت ليأخذني بهذه الطريقة.

أعادتني الذاكرة مباشرة إلى الانفجار الذي اختبرته قبل ثلاثة عشر عاماً، حين انفجرت سيارة مفخخة خلف منزلي السابق في سن الفيل (قتلت عشرة أشخاص من بينهم النائب انطوان غانم). يومها، شعرت بالصدمة والخوف، وقررت عدم البقاء في لبنان، لكني مع ذلك، بقيت، وها أنا بعد سنوات طويلة، أعرض نفسي للموت مرة جديدة.   

دائماً الحدث يسبق التفكير فيه، بالإضافة إلى أن التجربة تشبه حلماً: لست داخل الواقع كلياً ولست خارجه، لست في الحاضر ولا الماضي أو المستقبل. كأنك في النفق الذي يأخذك من زمن إلى زمن غير محدد المعالم بعد.

لكن هذه المرة كانت مختلفة. ظننت، كما مئات الآلاف من سكان المدينة، أن الحي الذي أعيش فيه هو المستهدف. لم تكن الفكرة منطقية، لكن رأسي استعارها من "منطق زمن سابق"، كانت خلاله الإنفجارات تقتصر على شوارع وأحياء، وليس على مدن بأكملها يفجرها حكامها.

إحدى الصديقات التي كانت موجودة في المقهى حيث جلست، فكَّرت خلال هروبها، أنها لم تدفع الحساب، رغم أن المقهى كان قد أصبح دماراً خلفها. حصل أمر شبيه مع صديق وقع نصف بيته خلال الإنفجار، لكنه مع ذلك حاول إيجاد المفتاح خلال هروبه. جميعهم بقوا بطريقة او أخرى، عالقين في اللحظة السابقة على الحدث، من دون قدرة الوصول إليه.

2

تحول المقهى إلى غيمة من الغبار والحطام. كنت تحت الطاولة مختبئاً. حملتُ أغراضي وخرجت. تفقدت بطني ورأسي لأتأكد أني لا أعاني إصابات خطيرة. كانت الدماء تسيل من قدمي ويدي لكني عرفت أني ما زلت حيّاً. 

كانت الوجوه خائفة وحائرة أمامي. حاولت الإستفهام من بعضهم عن موقع الإنفجار، لكني لم أحصل على إجابة. خرجوا فجأة جميعاً من المباني المحيطة بالجميزة. كانت الدماء تغطي وجوههم. بعد ساعات سأفهم أن الدماء غطت وجوه سكان بيروت بأكملها وليس فقط الجميزة. لكن قبل أن أفهم ذلك، رأيت كيف يدور المصابون في أمكنتهم مثل الزومبيز. حاولت إقناع البعض بوجود مستشفى قريبة، ففوجئتُ بالسهولة التي لحقوني بها.  

خلال سيرنا الخائف والذليل، سمعت عشرات الأشخاص يحاولون الإتصال بأمهاتهم مثلي. كانت بيروت بأكملها تحاول الاتصال بأمها. رجال، نساء، وعجائز تحولوا فجأة من أفراد ناضجين، إلى أطفال وحيدين متروكين لمصائرهم.

كان مستشفى الوردية شبه مدمّر. غطت الدماء وجوه الراهبات والممرضات. تركت أتباعي حينها وحيدين وقررت النزول إلى غرفتي، كي أغسل جروحي وأضع بعض البيتادين الذي كنت قد اشتريته قبل أيام قليلة. رأيت في الطريق كثيراً من الأشجار المحطمة ولم أفهم. ماذا حصل؟ ما هذا الإنفجار الذي يظهر أثره من دون أن نعرف شيئاً عن مكانه؟ رأيت حينها أحد أصدقائي. كانت الدماء تسيل من رأسه، فقلت له بكل براءة: "تعا في عندي بيتادين بالغرفة"! 

من الناحية الأخرى من الطريق، رأيت صديقة قديمة تدخن سيجارة. لم أفهم. مرّ قربي عشرات الجرحى الذين، رغم إصاباتهم، كانوا يحاولون مساعدتي بشيء. كلينكس أو مياه او فقط كلمة لطيفة. للمرة الأولى في حياتي لم أضطر لبذل جهد من أجل التواصل مع الآخرين الذين أتوا إليّ رغم أن جروحهم كانت تفوق جروحي. 

3

كان اللجوء لاستئجار غرفة عوضاً عن منزل، الخيار الوحيد المتاح بالنسبة إلي. جزء كبير من اصدقائي لجأ إلى هذا الخيار، خصوصاً بعد الإرتفاع الجنوني للإيجارات التي جعلت الشرائح الأكبر من اللبنانيين غير مرحب بهم في عاصمتهم. 

نتحدث هنا عن نموذج "البيت المشترك" الذي نشأ بداية في الأحياء المحيطة بالجامعات، وأصبح اليوم يتركز بشكل خاص في أحياء الأشرفية، مارمخايل، الجميزة، بالإضافة إلى فرن الشباك ورأس بيروت... جزء كبير من الوحدات السكنية المتضررة بالانفجار اليوم، ينتمي إلى هذا النموذج من البيوت التي يسكنها عادة موظفون في الجمعيات، فنانون (موسيقى، رسم، تصوير، مسرح، تصميم ..) صحافيون، أجانب يستعملون لبنان كوسيط للتعرف على العالم العربي (عاملون في مجالات ديبلوماسية، باحثون، أشخاص من أصول عربية أو ارتبط تاريخ عائلاتهم بالإستثمار او التعليم في العالم العربي)، عرب، وسوريون شكلوا جزءاً كبيراً من "الشقق المشتركة" بين العامين 2011 و2016.

هذه الشرائح كلها، فضلت أحياء تعتبر منفتحة وتتقبل الاختلاف بشكل عام (على أحياء اخرى ذات صبغة طائفية)، وهي على كل حال الفئات المهيمنة على مناطق مار مخايل والجميزة التي كانت الأكثر تضرراً من الإنفجار.

في العادة، وتفادياً للتعامل مع سمسار، تجد هذه الفئات، غرفاً من هذا النوع عبر صفحات في فايسبوك أشهرها Appartments of Beirut التي حولت كل مجهودها اليوم لدعم المتضررين من الانفجار. وجدتُ عبر هذه الصفحة أكثرية الغرف التي عشت فيها خلال السنوات الخمس الماضية، ومن بينها الغرفة الأخيرة التي سكنتها في فندق أقرب إلى النزل، يحمل اسم Urban Gardens في منطقة الصيفي.

يرتاد الفندق الذي اشتهر بسبب الكافيه التابعة له، "إم نزيه"، الأجانب والعرب بشكل خاص، لكن هذه الفئات تراجعت بشكل كبير خلال الإغلاق التام الذي فرضه فيروس كورونا، ما أجبر إدارة النزل على تغيير سياساتها والتوجه إلى اللبنانيين الراغبين بالبقاء لفترات طويلة، عبر عروض مخفضة تؤمن للإدارة بعض السيولة لدفع رواتب الموظفين.

انتقل المستأجرون الجدد إلى شقتين منفصلتين في مبنى قديم تابع للفندق (كان منزلاً قبل تحويله إلى مدرسة ثم فندق). أصبحت الشقتان أشبه بنموذج البيوت المشتركة، لأن القاطنين فيها استأجروا لفترات طويلة من دون الإستفادة من أكثرية الخدمات التي تقدم عادة لزوار الفندق.

امتلك المبنى الذي لا يفصله عن المرفأ سوى جسر شارل الحلو، تصميماً منفصماً بين المزاج العربي الذي يظهر في التقسيم الداخلي (باحة واسعة في الوسط، وخمس غرف تتوزع حوله)، والمزاج الغربي الذي يظهر في التصميم الخارجي (القرميد وتصميم الشرفات) وهو نمط من البناء كان رائجاً بكثرة خلال فترة الإنتداب، علماً أن أكثرية مباني الجميزة القديمة المهددة اليوم بالزوال بسبب الإنفجار، تنتمي إلى المرحلة نفسها.

4

كان الحطام يملأ الدرج المؤدي إلى المبنى. انزلقتُ في محاولتي الأولى، بسبب لزوجة الدماء في قدمي ما أدى إلى تمزق الشحاطة التي كنت أرتديها. أردت تخليص معدات الصوت والتصوير والنقود الموجودة في الغرفة، قبل أن تُسرق، لكن ذلك كان مستحيلاً بسبب تدمير المنزل بشكل شبه كلي.

لا أعرف كيف نجا الباقون، لكن ما ساعدهم في البقاء على قيد الحياة، حسبما فهمتُ منهم، هو خروجهم في اللحظات الأخيرة من غرف النوم للتفرج على حريق المرفأ. وقفوا في غرفة الجلوس التي كانت المكان الأكثر أماناً. هنا لم يقع السقف كلياً، كما حصل في غرف النوم، بل طار من مكانه. قذفهم ضغط الإنفجار من أول المنزل إلى آخره، ما تسبب لهم ببعض الكسور والجروح، لكن من دون أن تقتل أحداً منهم.

تسلقوا جميعاً الحطام والدماء تغطي أجسادهم، حتى وصلوا إلى الطريق الرئيسي. ساعد سائقو الدراجات النارية بسرعة، إثنين من أصحاب الإصابات الخطرة، وبقي إثنان. تنوعت جنسيات أصحاب الدراجات بين سوريين وفلسطينيين ولبنانيين ينتمون إلى المناطق الطرفية، لطالما تعاملت معهم المدينة بصفتهم غرباء وطارئين، لكنهم مع ذلك سارعوا إلى إنقاذ أبناء المدينة بلا تردد.

حين دخلت إلى المنزل بعد خروجهم، كانت واحدة من الغرف قد اختفت كلياً، أما الغرف الباقية فكانت مغطاة بالحطام. اختفى بعض الجدران من الطابق الأول، ما جعل المبنى مهدداً بالكامل في اي لحظة، وحتى الآن ما زلت عاجزاً عن تحريك شيء في غرفتي، لأنها واقفة وحدها في الفراغ.

عند خروجي، مشيت حافي القدمين حتى وصلتُ ساحة صغيرة بجوار تمثال كتب تحته "يسقط الفن الأوليغارشي". جلست على بعد أمتار من أم نزيه التي سألتني عن حالي وإن كنت احتاج شيئاً. كانت المرة الأولى التي أتعرف عليها وجهاً لوجه. أحاطت بها عائلتها، وكان الجميع قد وصل من أنحاء الشارع للإطمئنان عليها وعلى أبي نزيه.

هذه العائلة ذات الأصول البعلبكية، أدارت، لسنوات، مكاناً تحول بفضلها إلى فضاء كوزمبوليتي، استفاد منه الأجانب واللبنانيون والسوريون بشكل خاص الذين احتاجوا بعد لجوئهم إلى لبنان، إلى فضاء يمكنهم فيه تعلم اللغات الأجنبية بشكل تبادلي مع الأوروبيين الراغبين في تعلم العربية، وساعدهم على نسج صلات مع البلاد التي كانت محطتهم الثانية بعد لبنان.

لكن المكان، خلال الأشهر الأخيرة، كان يعيش أياماً صعبة، بسبب إغلاق الحدود والأزمة الإقتصادية. كل ما عملت العائلة من أجله، راح يتحول أمامها إلى سراب. لذلك، قررَت المقاومة من اجل الاستمرار، وخلال الأسابيع الماضية بدأت الأحوال تتحسن تدريجيا، إن كان من ناحية الحجوزات في الفندق التي ازدادت مع فتح المطار، أو من ناحية كافيه أم نزيه الذي صار يزدحم بالناس مثل السابق، وعادت الحفلات إليه آخر كل أسبوع.

5

خلال جلوسي، رأيت أبا نزيه قادماً نحونا وهو يشتم الأخبار التي كانت تتحدث عن وجود مفرقعات في المرفأ. أخبرنا عن صوت الطائرات الذي سمعه بشكل واضح، ثم بدأ يبحث في الحطام عمّا بدا له أجزاء من صاروخ. لم يكن أبو نزيه وحيداً في ادعائه. فعشرات، وربما مئات غيره، سيصرون على فرضية القصف، وهناك صور كثيرة تظهر أجزاء من صواريخ في أحياء المدينة (يقال أيضاً إنها كانت موجودة في المرفأ).

بقيتُ في الطريق حتى سمعت نزيه يصرخ قائلاً بأن الرياح ستسحب الدخان الملوث نحونا قريباً. شعرت بالخوف لأني مصاب بالربو، وسأكون بلا شك أول المختنقين بالدخان.

كنت في الوسط بين شوارع ثلاثة مقطوعة: الشارع المؤدي إلى مارمخايل، الشارع المؤدي إلى الاوتوستراد البحري، والشارع الذي يأخذك إلى وسط بيروت. كانت أختي تحاول الوصول من الأشرفية إلى شارعنا، لكن ذلك كان مستحيلاً. عندها بدأت أحاول إيجاد دراجة نارية فارغة تقلني إلى مكان قريب من أختي، إلى أن ظهر شاب فجأة وتبرع بنقلي.

في الطريق إلى تقاطع كورنيش النهر، رأيت كثيراً من الجرحى الذين ينتظرون من يأخذهم إلى المستشفى. شعرت بالذنب لأني لم أفسح المجال لشخص مصاب بجروح أكثر مني. كنت خائفاً بالطبع من الإختناق، لكني، بيني وبين نفسي، كنت أتساءل إن كان الربو مجرد حجة للتصرف بأنانية.

لم ينخفض منسوب الدمار حتى وصلنا إلى جسر الحديد. أصر الشاب، الذي عرفت انه فلسطيني من الطريق الجديدة، ان يوصلني إلى التقاطع في آخر الشارع، حيث كان يفترض أن ألتقي أختي. لم تكن قد وصلت بعد بسبب ازدحام السير الشديد. مشيت على الرصيف حافي القدمين، والدماء تغطي جسدي. كان الناس ينزلون من سياراتهم ويحاولون أخذي إلى المستشفى. رفضت ذلك لأن أختي كانت على بعد عشرات الأمتار فقط مني. كان هناك من يحاول تصويري. فوجئت، لأني خلال الوقت الذي سبق لم أر مصوراً...

حين وجدتها، قالت لي أن شكلي حافي القدمين والدماء تغطيني، لا يختلف كثيراً عن المسيح. ضحكت. كنت أشعر بالأمان للمرة الأولى منذ الإنفجار. لكنها لم تكن مخطئة. كنت مسيحاً، على طريقتي.. ومِثلي، في تلك اللحظات، مئات الآلاف من سكان بيروت.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024