وعظة زينة الخليل في "بيت بيروت": احتفلوا بالكارثة

روجيه عوطة

الأربعاء 2017/10/11
لا يمكن الدوران في معرض زينة الخليل، "الكارثة المقدسة: شفاء لبنان"، من دون التوقف على مكانه، أي "بيت بيروت". وذلك، ليس لأن هذا المكان يحتوي المعرض ويقدمه، بل إنه يبدو منسجماً معه للغاية، انطلاقاً من نزوع يجمعهما، ومفاده استدخال معالم الحطام، التي خلفتها حروب الأهل في البلاد، في فضاء مدينتنا الحديثة ومعاشها العمراني. فـ"بيت بيروت" كان مبنى مخرباً، رجاء لمسلحي الأطراف المتقاتلة على خط التماس في منطقة السوديكو، وها هو الآن، وبمعية البلدية، يصير مركزاً فنياً، بالإستناد إلى ترميم دماره، والحفاظ عليه.

إذاً، ثمة عيون وجدت في ركامه ضرباً من الجمال، وهذه العيون هي فنية طبعاً، بحيث انها ترى، بحُكم عادة نشأت في بداية القرن المنصرم، واشتدت خلاله، قبل أن تنتقل من اللوحة إلى التصميم الهندسي، محمولة على خطاب متحول من إماطة اللثام عن البشاعة إلى التمجيد المعاصر للأطلال، لترى في كل رجاء مدمر ومهجور محلاً جذاباً. وهذه العيون ترفد مدينتنا بمكان مملوء بالذاكرة، الجامدة وغير النشطة، الصدئة والمقشورة، تعويضاً عن الناقص في زمنها، الذي يسير كل يوم بيومه، في حاضر مقفل على ماضٍ ومستقبل غائبين، أو معطوبين على الأقل.
 

فالمدينة، التي لا تتوقف عن جعل زمنها الحديث مجرد راهن كثيف، تحتاج إلى مكان يوحي بأنها تمتلك ذاكرة. وبما أن متاحفها خفيفة الوطأة في فضائها، فلا بد لها من استدخال غيرها، أي عمران الحرب، الذي تقحمه فيها على نحو محدد، تعينها تلك العيون في إنجازه. مع العلم أن هذا النحو لطالما كان من مطالب الكلام الثقافي طوال عقد التسعينات، "ملحق النهار" مثالاً: تغييره من عمران أنتجته الحرب إلى عمران يحنطه السلم بملامح حسنة. شيئاً فشيئاً، يتبدل هذا العمران من قتيل إلى جثة ساحرة، كمتحف وغاليري ومكتبة، وتتبدل "الحوادث" التي اغتالته، فتصير أعمالاً فنية وأدبية، تحت عنوان واحد، جرى تحبيره كثيراً، وهو مشكلة الذاكرة المفقودة، التي أفضت في النهاية إلى تكريس ما يمكن تسميته "سياحة الذاكرة" المزعومة.

في هذا السياق، تندرج رسوم وفيديوات وتصويرات وتجهيزات زينة الخليل، التي اجتاحت طوابق "بيت بيروت" الثلاثة، مبجلةً الكارثة، وفي الوقت نفسه، داعيةً إلى "الشفاء" منها. في الطابق الأول، رسوم بلطخات قاتمة، وتخطيط عربي لعبارات من قبيل "المحبة" و"المودة" و"الغفران"، بالإضافة إلى فيديوات وتصويرات عن أمكنة محطمة شبيهة بـ"بيت بيروت" حين كان لا يزال "المبنى الأصفر"، مثل فندق صوفر الكبير، وسجن الخيام، وسوق الغرب. وخلال الفرجة، تُسمع موسيقى هي كناية عن تصويت متكرر، "مانترا"، تضاعف من إكفهرار الجو وهالته، فيتسم بوعظية صريحة، تدعو إلى المصالحة والتعافي من التفرق والتحارب. أما في الطابقين الثاني والثالث، فوزعت خليل، داخل القاعات المرممة، تجهيزها المؤلف من 17000 ألف عمود خشبي، خضراء اللون وتُمثل عدد المفقودين خلال الحرب اللبنانية، وأضافت إليها نصاً ركيكاً عن الحب والمدينة.


المعرض يحمل رسالة مبتذلة واضحة: احتفوا بالحرب، أحبوا بعضكم البعض، فهذا ما يؤدي بكم إلى العفو والوفاق! لكن، الأهم في هذه الرسالة، أن السبيل إلى الإحتفاء، ثم الشفاء، هو، وبحسب تنسيق المعرض، الإرتطام بالأسود (الطابق الأول) قبل اللوذ بالمفقودين (الطابق الثاني والثالث)، وبينهما التخدّر بـ"مانترا" صوتية أو نص "وجداني" ضعيف. تقول الخليل إنها تريد، ومن خلال معرضها، أن تحول بيروت إلى "مدينة للنور". لكن أين "النور" الذي أنتجته أعمالها؟ إذ إنه يكاد يكون معدوماً لولا الضوء الذي يدخل من الخارج عبر نوافذ "بيت بيروت".

فعلياً، تقديس الكارثة، الإحتفال بها، يتصل بـ"متحفة" عمران الحرب وتحنيطه، ويتصل بـ"سياحة الذاكرة". غير أنه لا يمكن لهذا الإتصال أن يكون خشناً بدعوة من قبيل: "قدسوا الكارثة"، بل عليه أن يرتبط بدعوة أخرى: "... للشفاء منها"، أي القبول بالتعامل معها كعمل هندسي وفني، محمي بالزجاج، كجدران "بيت بيروت"، أو مرئي على الشاشة، كمَشاهد الدمار التي تلتقطها عدسة زينة الخليل. لكن، حتى في هذه الدعوة القائمة على خزعبلات فنية تجمع بين التفرج والتطهر، لا ينجح المعرض، لأنه ببساطة مباشر في إبانتها: لطخات "صوفية"، مع صور للحطام، مع عبارات الغفران والمحبة والمودة. وفي المحصلة: وعظة فنية قديمة-جديدة بشكل تعبيري هزيل.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024