الصراع على جبل لبنان

محمد حجيري

الإثنين 2019/07/01
يقال إن من الأسباب التي أدّت الى فتنة طائفية بين المسيحيين والدروز سنة 1860، شجار وقع بين مكاري اصطدم حماره بكتف رجل من مذهب آخر في طريق بيت مري، تلك القرية الوديعة المطلة على بحر لبنان. ويقال إن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990) بدأت مع بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان، والجميع يتذكر كوع الكحالة في هذه الحرب المريرة، فمرّة اعتُبر الحد الذي لا يمكن تجاوزه من قبل مجموعات ما سمي "الحركة الوطنية"، إذ كان تجاوزه ليقلب موازين السياسة والسيطرة على لبنان خلال الحرب، ومرات أيضاً كان الكوع كميناً للقتل والقنص على الهوية...

خلال الأيام الأخيرة، كانت عودة الخطاب العوني الباسيلي، إلى ماضي كوع الكحالة ومحيطه، جزءاً من توتير الأجواء في لبنان عموماً والجبل تحديداً، واكتمل المشهد مع تعرض الجنبلاطيين، لموكب الوزير الإرسلاني العوني صالح الغريب، ومقتل اثنين من مرافقيه. صار المشهد "بروفا" لاشتعال أكثر من فتنة، بين أكثر من طرف وأكثر من طباخ ومستفيد، فلا عجب أن تبدأ الحرب من جديد من كوع أو مواكب مدججة بالسلاح من هنا، وسيارات شبحية أو طرق مقطوعة بالإطارات من هناك. الحرب يا سادة، هي خطاب سياسي وأبواق منابر أولاً، قبل أن تكون عود ثقاب أو كلاشينكوف يأكله الصدأ، أو راجمة صواريخ في مستودع. الحرب "ثقافة" بائسة وتعبئة نفوس جماعات متوهمة، قبل أي تحرك ميداني وقبل المتاريس.

بعد حادثة موكب صالح غريب، علق النائب تيمور جنبلاط، وهو قليل التعليق، قائلاً: "أن ما جرى في الجبل يؤكد أن الإخلال بالتوازنات لعبة خطيرة". لم يقل جنبلاط الابن ان الإخلال يؤدي إلى الحرب، لطَّفها بعبارة "لعبة خطيرة"، وعادة ما يقولون "لعب بالنار". في السياق نفسه، لمّح بعض وجهاء الدروز إلى الأصل في "خطاب الاستفزاز"، والى "أن البيوت تدخل من أبوابها"، بمعنى آخر هناك "محمية" كما يسميها أحمد بيضون في فسبكته، لا يمكن خرق "خصوصيتها" والدخول من بابها من دون إذن ممن يعتبرها ملكه. ومن هنا يبدأ الجدل في أسباب التوتر الفعلية، ونصبح أمام معادلة جديدة: إخلال بالتوازنات يؤدي إلى لعبة خطيرة، وهذا درس من دروس لبنان الكبير الذي يحتفل العام المقبل بمئوية إنشائه، وهذا درس خصوصاً بين الدروز والموارنة، وحتى بين الباسيليين والطوائف الأخرى.

ما قاله باسيل عن السنّية السياسة وجثة المارونية السياسية، لا يقل خطورة، على أن أدوات اللعبة الخطيرة جاهزة بلا ريب، وبلا أي غموض أو مواربة. فرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لا يرضى إلا أن يكون أميراً أو سيداً لـ"محمية" الشوف، بمسيحييها ودروزها وحتى سنّة إقليمها، ويعتبر حضوره في شحيم جزءاً من امتداد العروبة. ورئيس "التيار الوطني الحر"، جبران باسيل، الصاعد وعاشق التجول والمواكب والزجاج الداكن والأعداد الضخمة من المرافقين والتبجح بالجينات النقية، لا يرضى بأقل من تهميش الدروز وإلغاء دورهم في الشوف، بمعنى إلغاء الدور الجنبلاطي التقليدي والعودة الى ما قبل الحرب الأهلية وزمن "الجمهورية الأولى" ونجومية كميل شمعون وشراسة بشير الجميل. وما تصريحات بعض وزرائه والتخويف من النوم في الجبل، سوى دليل على ذلك... 

لنتخيل الصورة بشكل آخر. قبل أيام كتب وضاح شرارة مقالة عن المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي نعى في السياسة الفرنسية في المشرق، مماشاتها "بيروت" ومصالحها الضيقة والمتعنتة و"المتفرنسة"، على حساب الداخلية الإسلامية والعربية. كان ماسينيون يدرك مآلات الأمور وإجراءات الفرنسيين التي جعلت فئة مهمّشة، سيدة على فئة كبيرة كانت تعتبر نفسها سيدة تاريخياً. وهذا الأمر أدى إلى توترات كبيرة لم تنته فصولها بعد، وأسست لمناوشات وحروب وكراهيات أبدية. كان ماسينيون المتجول والمتصوف وعاشق الحلاج والبيئة العربية، والرحالة في معظم البلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا، حتى باكستان والهند، يعرف أسرار قبائل المنطقة وطباعهم وسلوكم، ويدرك معنى ثقافة التوازنات وتسييد الجماعات. وإذا تحدثنا عن الدروز والموارنة، فهما أكثر تعقيداً في هذا المجال، وأكثر "خصوبة" لصرعات قروسطية فتاكة حصلت على مدى عقود وبأدوار مختلفة، بدافع من "جنون السلطة".

وسبق أن تطرقنا، في مقالة عن كتاب "صناعة الأسطورة: حكاية التمرّد الطويل في جبل لبنان" لعبد الرحيم ابوحسين، إلى التحولات التي طرأت على الجبل قبل 1960 وانقلاب الأدوار بين الدروز والموارنة. ومن يدخل في كواليس الثقافات القديمة يعرف حساسية هاتين الطائفتين الأكثر تداخلاً في قرى جبل لبنان. ومن يراجع أيضاً صراع كمال جنبلاط وكميل شمعون، يعرف الصورة أكثر، وهي تجلت أكثر فأكثر في "حرب الجبل" في الثمانينات... هذا لا يدركه كثيرون من "غلاة" السياسة الجدد، ويدرك آخرون بأن الدروز والموارنة في صراعهما التقليدي والطائفي والقبلي، هم الأكثر شراسة في إلغاء أدوارهما التاريخية والحالية في لبنان...

بعد "نهاية" الحرب الأهلية، كان واضحاً أن الأمور كانت لصالح وليد جنبلاط، بدعم إقليمي وسوري دولي، استحوذ على عدد لا بأس من النواب، وصار ما سُمي "بيضة القبان" ولعب دوراً كأن مثّل الطوائف التي تسمى "الأولى" (الموارنة والسنّة والشيعة) بغض النظر عن التفاصيل الأخرى. معظم أنصار "الجمهورية الأولى" ونحوهم، كانوا ينظرون بعين الريبة إلى واقع الجبل وسيادة جنبلاط على "المحمية" ودوره في اتخاذ القرارات، ولم تبتعد تفاصيل حرب الجبل عن ذهنية خصوم جنبلاط يوماً.

وبعد مجيء بشار الأسد إلى السلطة في سوريا، ووضعه مندوباً جديداً له في عنجر هو المقبور رستم غزالي، جرب هذا الأخير "صناعة زعامة" على الشوف على قياس أفكار بشّاره، من خلال إقصاء جنبلاط عن السلطة أو الحكومة. كان الاقصاء نقطة أساسية في وجود الجيش السوري في لبنان، إذ دعا جنبلاط الى تطبيق الطائف وإعادة انتشار الجيش السوري، وزادت وتيرة الأصوات التي تطالب بانسحاب السوريين من لبنان، خصوصاً أن النظام السوري بنسخته البشارية، كان يهمّش المسيحيين ويريد أيضاً تهميش الحريرية السياسية... مع العهد القوي والتحالف مع "حزب الله" الذي أخذ جزءاً كبيراً من الدور السوري، ومع صعود نجم جبران باسيل الطامح الى شمعونية جديدة، بدا من البداية أن باسيل يحاول فرض توازنات جديدة وهيمنة جديدة في الشوف، في النيابة والوزارة والوظائف، هي توازنات لم تتضح معالمها بعد، لكنها من دون شك ستؤدي الى مسار خطير، ربما تجد في طريقها من يتبجح بفكرة "العداد" بدل "المناصفة"، أو "لبنان دائرة انتخابية واحدة" تفتك بكل التوازنات. وفيما يتحدث وزير "حزب الله" عن حادثة قبر شمون وكأنه ناشط في المجتمع المدني، تعاطى آخرون مع باسيل من موقع الشماتة، وثمة من تضامن معه في إطار الغمز من هشاشة مصالحة الجبل بين جنبلاط والبطريرك صفير.

في المحصلة الآن، تتجه الأنظار إلى حارة حريك، الراعي الرسمي للسياسة اللبنانية...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024