2021... شبح انفجار مرفأ بيروت في الفن التشكيلي

محمد شرف

الأحد 2021/12/26

ليس من المستغرب أن يكون الحديث عن الحصاد التشكيلي لعام 2021 مختلفاً عن سواه من الأعوام الماضية، التي عرفنا خلالها نشاطاً فنيّاً محموماً في بعض الأوقات. هذا، علماً أنه قد يكون أفضل، نسبياً، من العام الذي سبقه، والذي كان "كارثياً" في هذا المجال.


الأسباب صارت معروفة، ولا تحتاج منجّماً كي يكشف فحواها. وكأنّ الإنهيار الإقتصادي وجائحة كورونا، وما يتناسل منها من ملحقات، لم يكونا كافيين من أجل توجيه سهم مسموم للثقافة في مختلف مجالاتها، حتى جاء إنفجار 4 آب المشؤوم ليفعل فعله، وليطاول الفن التشكيلي أكثر من سواه. إذ شاءت المصادفة المحزنة أن يقع عدد لا بأس به من صالات العرض في محيط المرفأ، أو في مكان غير بعيد عنه. تساقطت لوحات عبد القادري المعلّقة في "غاليري تانيت"، واختلطت بزجاج الواجهة، وتطايرت نوافذ صالة "Art on 56"، وإنهار سقف صالة "إكزود أشرفية"، وتضررت قاعات أخرى أيضاً بنسب متفاوتة. أمّا فراس دحويش، الإنسان اللطيف، الذي عمل موظفاً مداوماً في "غاليري أجيال"، فكان حظه أقسى من حظ الزجاج والحجر، إذ توفي إثر إصابته بأجزاء من الركام المتساقط في منطقة بشارة الخوري.


كان من شأن ما تم ذكره أن يترك أثاراً سلبية لفترة طويلة، لولا التصميم والإرادة اللتين تحلّى بهما بعض أصحاب الصالات، وذلك في بلد صار بينه وبين التشاؤم وفقدان الأمل عقد مكتمل المواصفات. عاود العديد من صالات العاصمة النشاط تدريجاً خلال العام 2021. رُمّم ما تضرر منها بفعل حادثة المرفأ، لكن تلك التي لم تُصب بأضرار لم تعاود عملها كلّها، أو صار حضورها خفيف الوقع، وقد عمدت بعض الغاليريهات، كي تتجنّب الإقفال المؤقت أو الدائم، إلى تنظيم عروض جماعية لفنانين سبق وتعاونت معهم في فترات سابقة.

أحد المعارض التي أقيمت في بداية العام اتخذ عنوان "الفن الجريح"، وذلك في "فيلا عودة" في منطقة الأشرفية. ضم المعرض الجماعي، أعمالاً لفنانين لبنانيين وبعض الأوروبيين. وفي ما عدا بعض الأعمال القليلة، لم تكن التظاهرة الفنيّة ذات علاقة مباشرة بأوضاع البلد، إذ ضم المعرض أعمالاً لفنانين لبنانيين راحلين من ذوي الإتجاهات المختلفة. كان الهدف من التظاهرة بعث نسمة من الحياة في الحياة الثقافية - الفنيّة، في محاولة لكسر الجمود القائم. ومن أجل الهدف ذاته قدّمت غاليري "أل.تي"، التي يديرها الفنّان والناشط سيمون مهنّا، بالتعاون مع صالة "يلاو كيوب" الفرنسية، معرضاً ضخماً على منصّة إفتراضية، وضم مجموعة من الفنانين اللبنانيين والفرنسيين. هذا، وقد برزت في المعرض أعمال الفنان اللبناني منصور الهبر، المشغولة بمواد مختلفة وأسلوب الكولاج، وهي التي تتحدّث عن الوحدة ضمن المنزل الواحد، وصولاً إلى التفكّك الأسري، إضافة إلى مسائل وجودية أخرى.


يبدو أن من بين الصالات التي لم تعرف الهدوء الشامل، والهدوء غير مرغوب به في الحالة التي نحن في صددها، وذلك بالرغم من المصائب المتراكمة، هي "صالة صالح بركات" في كليمنصو، وكذلك "غاليري أجيال". يعود ذلك إلى حيوية بركات، وإلى ابتكاره بعض الأفكار والمشاريع، كذاك المعرض الإستعادي الجماعي الذي أقامه، ليطرح من خلاله تساؤلات حول القيمة الجمالية للأعمال الفنية في مسارها المستمر منذ ثلاثين عاماً، وهو، أي بركات، كان راهن على بيروت كعاصمة للفن والإبداع. هذا الرهان اصطدم، في الوقت الحاضر، بظروف عصيبة وعاكسته مجريات الواقع، لكنه لم يثنِ بركات عن أن يقوم بالمهمة التي حملها على عاتقه. ومن بين تلك المبادرات، أيضاً، المعرض الجماعي الذي ضمّ أعمالاً كبيرة الحجم، ذات طابع "مونيمنتالي"، تحت عنوان “The Show Must Go On”، الذي يشير بدوره إلى إرادة عدم التوقف عن العروض، وأُهدي العرض إلى الراحل فراس دحويش، الذي ذكرناه أعلاه.

أمّا في ما يتعلق بالمعارض الفرديّة، التي أقيمت في صالة "أجيال"، فلا بد من ذكر معرض ريم الجندي، التي اتّبعت مدخلاً تشكيلياً جديدا في إخراج أعمالها من خلال استعمال مادة غير مألوفة ومبتكرة وهي الخرز، في تعاملها مع "الوقت". أما فانيسا الجميّل فقد رأت بيروت من زاوية خاصة في "مدينة حمراء وليل من دانتيل"، ومازن الرفاعي الذي رأى بدوره مدينة بعلبك، مسقط رأسه، بيوتاً مهندسة باللون وبالظلال، محفوظة في مخزون الذكريات أكثر من قيامها في الواقع.

"رؤى الحاضر"- عنوان لمعرض جماعي بدوره أعدّته ونفّذته "غاليري جانين ربيز"، وضمّ عدداً كبيراً من الأعمال الفنيّة. تكمن خصوصية المعرض في أنه جاء بعد مرور ما يقرب العام على انفجار مرفأ بيروت، وقدّم إلى الجمهور أعمالاً مختلفة من حيث علاقتها بمسألة التعبير الفني، كما حمل أفكاراً حول التحدّيات القائمة في وجه الجميع، ما يطرح سؤالاً بديهياً: الهرب أو المواجهة؟ ومن المعارض الفردية التي أقامتها الغاليري، لا بد من ذكر معرض غادة الزغبي الذي شكّلت فيه أبنية مهجورة تحت عنوان:"Pretty abandoned"، وجميل ملاعب الذي قدّم قماشات تشبه المنمنمات رُسمت عليها بيوت بيروت المتراكمة، القريبة من قلبه، وأرفدها بجزوع خشبية طوطمية ذات أحجام مختلفة.

غاليريArt on 56" "، الواقعة ضمن منطقة مار مخايل، عادت هي أيضاً إلى تنظيم المعارض بعد الإقفال الذي فرضته ضرورة ترميمها، وإثر الصدمة التي تلقّتها صاحبتها نهى وادي محرّم، إذ صودف أنها كانت في الغاليري ساعة إنفجار 4 آب، شأنها شأن السيدات أصحاب غاليري "إكزود – أشرفيّة"، اللواتي قذفهن عصف الإنفجار أيضاً، من دون أن يتعرّضن لأذى، لحسن الحظ. أقامت السيدة محرّم معرضاً لغيلان الصفدي، تحت عنوان “The Lives of Others”، تضمّن أعمالاً تُظهر العديد من الحشود البشريّة المتراصّة، وقد تحوّلت وجوهها وعيونها شبابيك تطلّ على عالم ساخط، لا حركة فيها سوى القلق. أمّا المعرض الآخر الذي أقامته فيختلف عن سابقه، ففي "إشراقة الطبيعة" اختار الفنّان البقاعي عيسى حلّوم أن ينتقي مشاهداته بعيداً من المدينة، التي صارت مظاهرها السلبية تغزو الأخضر البقاعي، فقرر أن يحتفي بالطبيعة المنفصلة عن الأزمات، والمكتفية برونق ذاتها.

من ضمن هذه العودة التدريجية إلى العروض، استضافت صالة "مارك هاشم" معرضاً لشوقي شمعون عنوانه "سماوات مزهرة"، شاء الفنّان من خلاله أن يستعرض فصلاً جديداً من سيرته الشخصيّة. لم يتخلَ شمعون عن خطوطه العريضة، المبنية على دمج التجريد مع التشخيص، وشخوصة التي تحتلّ، عادة، أسفل اللوحة. كذلك افتتحت صالة "ميسون آرت"، الواقعة، هي أيضاً، في منطقة مار مخايل، والتي تعرّضت لدمار كبير جرّاء الإنفجار المشؤوم، معرضاً لافتاً للفنّانة السورية ريما سلمون لا عنوان له. وكما في معارض سابقة لها، ترسم سلمون كائنات غرائبية أقرب في ملامحها إلى المرأة، وهي تهدف من خلالها إدانة مظاهر الظلم ومنابعه، وتلمّح عبر ذلك إلى مشقّات العيش والأزمات الوجودية.

في غاليري "تانيت"، التي لم تسلم من إنفجار المرفأ، بل نالت نصيبها منه بشدّة، عرضت بتينا خوري بدر أعمالها الفنية التي جسّدت، كما بدا لنا، مناخات السماء البيروتية، مع ما يمكن أن يكتنفها من أسرار وصفاء، وتلوّث أيضاً. إلى جانب هذه الأعمال، وضعت صوراً عن نتاجها الفني المشتق من مجموعتها الفيسبوكية، كما أرفقت الأعمال بتعليقات كتابيّة من شأنها أن تساعد المتلقّي على الولوج إلى عوالم اللوحات.

أما "مارد" نديم كرم، فأخذ حصة كافية من التعليقات والنقاشات والإنتقادات. كان من الممكن أن يمرّ العمل من دون تلك الضجة التي أثارها، لو لم يلتصق مباشرة بحدث مأسوي لن ينساه اللبنانيون، وخصوصاً أهالي الضحايا الذين سقطوا نتيجة إهمال لا يريد أحدٌ تحمّل وزره. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لكونه قام في مكان الواقعة تحديداً، وكان من شأن هذا التجاور أن يفرض شروطاً معيّنة، لا مجال هنا لذكرها. في كل الأحوال، العمل كئيب، وليس فيه ما يوحي الأمل، الذي هدف إليه الصانع. كان من الممكن أن يكون الأمر مختلفاً لو نُظّمت مسابقة حول الفكرة، وأن يتمّ على أساس نتيجة الإقتراحات إختيار ما يتناسب مع الهدف من قبل لجنة مختصّة، كما يتمّ عادة، لا أن يتمّ "تلزيم" العمل لفرد واحد دون سواه.

عموماً لا يمكن مقارنة عام 2021 التشكيلي بغيره من الأعوام، كما سبق وذكرنا، التي كان النشاط الفنّي خلالها أكثر غنى وأكثر إنتاجاً. من خلال حديثنا مع فنانين عديدين، يمكن القول إن فئة لا بأس بها منهم يستنكفون عن العرض، بالرغم من جهوزية مجموعاتهم، إذ لا يبدو الظرف الحالي مناسباً لتحقيق هذه المهمّة. لذا، فهم ينتظرون ظروفاً أفضل، بالرغم من الشعور بأن الأفق قاتم، ولا شيء يوحي، حتى الآن، بأن الأيام القادمة ستكون أفضل مما هي عليه في هذه اللحظة.

لكن هذا السواد الليلي قد يكون، وكما علّمتنا التجارب، حافزاً من أجل إنتاج أعمال من شأنها عكس قساوة المرحلة وتعقيداتها. وإذا ما جلنا بنظرنا في تاريخ الفن، يتبيّن لنا أن القماشات، أو المنحوتات، أو أي شكل آخر من أشكال التعبير، إرتبط، غالباً، بحوادث دراماتيكية. أما ما يُنتج في أوقات الرفاهية فيكون، في بعض الأحيان، نوعاً من "الترف" الفنّي، الذي ينساه الناس قبل سواه.

(*) اللوحات ضمن النص لبتنا خوري بدر، أيمن بعلبكي، ريم الجندي وسليم معوض
 

 

 

 

 

 

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024