اللغة الترامبية

حسين عبد الحسين

الإثنين 2017/02/20
لم يصل الرئيس دونالد ترامب الى الرئاسة صدفة، بل هو ثمرة التحريض الذي يتولاه الحزب الجمهوري، وخلفه كبار رجال الاعمال واصحاب المصالح الكبرى، ممن يحرّضون ضد الحكومة منذ زمن الحرب الاهلية منتصف القرن التاسع عشر. هؤلاء المتمولون الاميركيون يسعون الى اضعاف الحكومة المنتخبة، وخفض ضرائبها، وتقليص تشريعاتها التي تحمي المستهلكين والبيئة والفقراء والمتقاعدين. وكلّما ضعفت الحكومة، انفلت رأس المال من عقاله، وأمعن في احتكاره وفي استغلاله افراد الطبقات الأقل دخلا.

وترافق تحريض رأس المال الاميركي ضد الحكومة مع قيام القطاعات المختلفة بشراء الكونغرس بغرفتيه، عبر عملية منظّمة معروفة بـ"لوبي"، واستند رأس المال في عملية التحريض الى شعبوية عنصرية بيضاء ودينية مسيحية، وحرّك سكان الأرياف ضد أهل المدن، مع ما يعني ذلك من تمجيد صورة متخيلة عن القرية الاميركية الصغيرة، الطيبة، التي يعرف ناسها بعضهم البعض، والذين يخافون الله ويتكلون على انفسهم، لا على الحكومة، فيتسلحون ويعيشون في مناطق نائية على شكل مستوطنات زراعية.

وصورة الاميركي الريفي لاقت رواجاً، منذ الثمانينات. قبل ذلك، أي في الخمسينات، أطلق اليمين صورة الأميركي الأبيض المسيحي الذي يعيش في ضواحي المدن، حيث راح المقاولون يبنون مساحات شاسعة من السكن، فانتقل البيض وابناء الطبقة المتوسطة الى الضواحي، وغرقت المدن في فقرها وجريمتها.

والأميركي الريفي هو بالضروة قليل التعليم، فظّ الأخلاق، يسمي الأمور بأسمائها. والأميركي الريفي هو نقيض الأميركي المديني، المثقف والنخبوي وصاحب الاخلاق العالية، والذي يستخدم مفردات عميقة وافكاراً معقدة. الحزب الجمهوري أمعن في تمجيد الريفي الأمّي والتشهير بالمثقف النخبوي، حتى حوّل الجمهوريون مفردتي مثقف ونخبوي الى شتيمة، وكانوا غالبا ما يستخدمونها ضد الرئيس السابق الديموقراطي باراك أوباما، حامل شهادة دكتوراه القانون من جامعة هارفرد، الأرقى في العالم.

هكذا، وقف السيناتور الجمهوري، تيم كوتون، في مجلس الشيوخ، ليبدي معارضته لمشروع قانون مطروح بالقول ان "بعض الأفكار تافهة الى درجة أن المثقفين وحدهم يصدقونها". وكوتون نفسه يحمل شهادة محاماة من هارفرد النخبوية، لكن يبدو أن الشعبوية تقضي بأن يتصرف وكأنه ريفي يكره المثقفين والنخبويين.

تمجيد الأمية هذا، هو الذي أوصل دونالد ترامب الى الرئاسة. فترامب ثري ابن ثري، أفلس أكثر من ثلاث مرّات، خبرته في معظم المواضيع سطحية، عباراته طفولية، وشخصيته بحاجة الى نضوج. لكن الجمهوريين يبحثون عن أميين يثرثرون على سجيتّهم، لأن في اعتقادهم ان البساطة الفكرية تشي بصدق، فيما النخبوية تعني التلاعب بالالفاظ والتذاكي على الناس.

حصل الجمهوريون على مطلبهم، ووصل البيت الابيض أكثر رئيس اضحوكة في تاريخ العالم. تغريداته مليئة بالاخطاء الاملائية، وكذلك بيانات البيت الابيض. حتى تغريدات وزيرة الثقافة بيتسي ديفوس، والبيانات الصادرة عن وزارتها، تشوبها أخطاء لغوية. يسأل الاعلاميون ترامب عن "معاداة السامية"، يجيبهم أنه اكتسح الانتخابات. ربما لم يفهم السؤال. في اليوم التالي يسألونه عن "سي بي سي"، وهي تلخيص معروف لكتلة اعضاء الكونغرس من الافارقة الاميركيين، يسأل ترامب: "من؟". 

في ظلّ اضمحلال الكونغرس العامل لدى المتمولين، ومع الرثاثة التي اصابت الرئاسة مع انتخاب ترامب، بقيت جامعات أميركا وإعلامها وحدها في المواجهة. لهذا السبب، نرى هجوم ترامب وتشهيره يتركز على الإعلام، الذي يسميه مزيفاً بشكل مستمر، على أمل ان تعلق الصفة في ذهن الناس. وبلغت الأمية بترامب وجماعته أن اقترحت مستشارته فكرة انه يقدم "وقائع بديلة" عن التي يقدمها الاعلام.

لكن الشعب الأميركي، من غير الأقلية الريفية البيضاء، يبدو انه لا يصدق ترامب، وهو ما دفع هذا الشعب الى مساندة الإعلام، فأظهرت تقارير كبرى وسائل الإعلام، مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و"اتلانتيك" زيادة في أعداد القراء والمشتركين بنسب تعدت 200 و300 في المئة احياناً. فيما شهدت شبكات تلفزيون "ام اس ان بي سي" و"سي إن إن" ارتفاعاً غير مسبوق في نسب مشاهديها، وتالياً في معلنيها ومواردها.

في فيلم هوليوود الكوميدي "بروس اولمايتي" (2003)، يمنح رب العالمين قدراته للبطل جيم كاري، الذي يسخّر هذه القدرات للحصول على كل ما يرغب فيه، لكن قدراته لا تنجح في الحصول على قلب حبيبته، لأن الخالق منح الناس عقولاً وحرية اختيار، ولا ينجح كاري في خطب ود حبيبته الا بعد أن يتخلى عن قدراته، ويتعلم أن حب الناس لا يكون بالقوة. ربما على ترامب مشاهدة هذا الفيلم، الذي قد يساعده على الفهم بأن حتى رئيس الولايات المتحدة لا يمكنه فرض حبه على الناس، بل عليه ان يستحق هذا الحب. لكن فلسفة من هذا النوع قد تبدو عميقة جداً على رئيس شبه أمّي مثل ترامب، يحيا في وسط مجموعة تمجد الأمية وتقدس الجهل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024