الروائي التونسي شكري المبخوت... عن الرواية والثورة والمثقف والسياسة

عبد الدائم السلامي

الثلاثاء 2015/01/13

 

تمثّل رواية "الطلياني" شكري المبخوت الصادرة عن دار التنوير في صائفة 2014 باكورة إنتاجه الأدبيّ الذي فاجأ به الوسط الأدبيّ التونسيّ خصوصا أنّه من الوجوه الأكاديميّة والثقافيّة التونسيّة المعروفة ووصلت الى اللائحة الطويلة في مسابقة بوكر للرواية العربية. وقد عرف بترجماته المختصّة في النقد الأدبيّ واللسانيّات وكتبه ومقالاته البحثيّة في التداوليّة ونشاطه الثقافيّ والإعلاميّ سواء بكتابة عمود أسبوعيّ في الصحف التونسيّة أو بالإشراف على مجلّة "أكاديميا" الثقافيّة التي تعنى بالحياة الجامعيّة أو إدارة مجلّة "حوليّات الجامعة التونسيّة" المختصّة في البحث العلميّ. وهو إلى ذلك عميد سابق لكلية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة الشهيرة ويشغل حاليّا خطّة رئيس جامعة منوبة. وسيصدر سنة 2015 رواية ثانية عنوانها "باغندا" وكرّاسا شعريّا بعنوان "سيرة وهم". في هذا الحوار، نتعرّف آراء شكري المبخوت في الرواية والنقد وأدب الجوائز وعلاقة المثقّف بالثورة والحياة السياسية.

 - تبدو روايات الأكاديميّين التونسيّين مصنوعة وفق شروط النظريات السرديّة، وهو ما يجعلها قليلة الماء الإبداعيّ. فهل يُعدّ احتفاء القراء الكبير بروايتك "الطلياني" دلالة على أنها قد نجت من "لعنة" الأكاديميا؟

* هذا موقف شائع من إسهامات الأكاديميّين الروائيّة وزعم منتشر لا نجدهما إلاّ في تونس! والحال أنّ الأمثلة العالميّة والعربيّة والتونسيّة عن الأكاديميّين الذين دخلوا عالم الرواية وأنتجوا أعمالا متميّزة أو محترمة أكثر من أن تحصر. غير أنّني لا أعتقد أنّ كلّ ما يكتبه الأكاديميّون هو جيّد لسبب بسيط: فجميع الروائيّين والشعراء عصاميّون بالضرورة إذا اعتبرت العصاميّة مقابلة للأكاديميّة. وحتّى ورشات الكتابة والمؤلّفات التي تزعم أنّها أدلّة للكتابة (وقد ترجمت دليلا منها) لا تصنع أدباء بقدر ما تجعلهم أشدّ وعيا بمخاطر فعل الإبداع ورهاناته. وعلى ذلك لك أن تقيس ما ينتجه غير الأكاديميّين. فالانتماء الأكاديميّ ليس شرطا لجودة الإبداع والعكس صحيح أيضا. 

أمّا بالنسبة إلى رواية "الطلياني" فقد لقيت فعلا حظوة لدى أصناف مختلفة من القرّاء التونسيّين والعرب فاجأتني شخصيّا رغم يقيني أنّها رواية لا يمكن للقارئ أن يتركها قبل أن يبلغ نهايتها. ولا يعود ذلك إلى أنّني ملمّ بعض الإلمام بالنظريّات السرديّة بل يعود أساسا إلى أنّني كتبت رواية كما أنتظر شخصيّا أن تكون الروايات. لقد طرحت بظاهر اليد، لأسباب ذوقيّة تتّصل باختياراتي كقارئ، ما لا أميل إليه في الكتابة السرديّة واخترت أن أحكي حكاية مشوّقة مليئة بالحياة تسائل وتترك الشخوص تعبّر عن تردّداتها وحيرتها وأوجاعها. وأعتقد أنّ القرّاء رأوا ملامح من إنسانيّتهم في هذا العمل فتفاعلوا معه. والوصفة بسيطة جدّا: لا تكتب إلاّ ما تحبّ أن تقرأه عند غيرك من الكتّاب. قد يعود ذلك إلى أنّني أرى نصّي، وأنا أكتب، بعين القارئ الذي يسكنني. أعترف أنّها مسافة محفوفة بالمخاطر. لكنّني كتبت رواية لنفسي فوجدت قرّاء يلتقون معي في انتظاراتهم وتوقّعاتهم من العقد الروائيّ. قد يكون في هذا بعض الإجابة عن سؤالك وليتدبّر الأمر النقّاد.

- لكنّ روايتك "الطلياني" مليئة بالخيبات والانكسارات والشخصيّات المحطّمة...

* نعم ما وصفت به الرواية صحيح في جانب منه.. وصحيح أيضا أنّها رواية مبهجة رغم هذه الخيبات.. ففيها احتفاء بالحياة وتعلّق بمباهجها وفيها كما لاحظ النقّاد إيروسيّة جذّابة واستحضار لروح التمرّد والطموح والإرادة والانتشاء لدى الشباب.. فأبطالها شبّان حالمون تجرفهم الحياة.. أنا لا أرى فيها الخيبات إلاّ بقدر ما تشفّ تلك الخيبات عن حبّ الحياة بما فيها من التقاء الشغف والقوّة الخلاّقة وفواعل الانكسار وهدم اللذّات.. لم أخطّط لأرسم أبطالا "إيجابيّين"، إن صحّ التعبير، فقد ولّى زمن البطولات الكاذبة بل اقتفيت مسارات أناس في وضعّيات محدّدة، أناس كانوا يسيرون، كما تشير عناوين بعض الفصول، في مسالك موحشة ومضايق وأزقّة وأروقة للوجع والحلم ومفترقات وسكك مقفلة لكنّهم رغم ذلك يحثّون الخطى... فالخطوات في هذه الرواية والآثار التي تتركها الأرجل المتعبة أهمّ من الطرق نفسها.

- فتحت الثورة التونسية الباب واسعا أمام نقد الأنظمة التي كانت تحكم الناس، فهل تدخل روايتك "الطلياني" في إطار محاكمة منك لإيديولوجية اليسار التونسي الذي ظلّ "يجسّ في مزابل اللينينية والستالينية العفنة" كما قلت على لسان بطلتك "زينة"؟

* ركّز كثير من القرّاء ومن كتبوا عن "الطلياني" على نقد اليسار وإيديولوجيّته. وهم ليسوا مخطئين في ذلك رغم أنّ الرواية أبعد شأوا في المستوى الرمزيّ منها واحتمالات تأويلها. ربّما ما لفت انتباههم أنّها رواية تخلّت عن رسم النمط النضاليّ الممجّد لليساريّ المقموع الباحث عن العدالة والمؤمن بالتغيير الذي يضحّي من أجل مبدأ. فما يجده القارئ هو شخصيّات قلقة تمنح لبطلها اليساريّ عمقا إنسانيّا يجعله يحلم وينهزم ويحبّ ويخون ويضعف ويقاوم وغير ذلك ممّا يسم الإنسان الواقعيّ لا المثال الموهوم. وربّما كان الأساسيّ في هذا النقد لليسار دائرا على مفهوم حرّيّة الفرد والاضطلاع بجراحه واستيهاماته و"لعنة أصوله" كما قال أحد نقّاد الرواية. وهذه الحرّيّة الجذريّة، حرّيّة الفرد، لم يولها اليسار التونسيّ اهتمامه مكتفيا بالدعوة إلى تحرير المجتمع بمناضلين مهزومين منذ البدء.

- ما مدى صواب القول بأن مؤسّسة النقد العربي ظلّت حبيسة مدارج الجامعة ولم تنزل إلى شوارع الكتابة، وأنّ ما يكتب فيها لا يزيد عن كونه تطبيقات مدرسيّة صارمة لا تخدم المُنجَز الإبداعيَّ؟

* لا يمكن حصر مؤسّسة النقد في ضرب منه هو النقد الجامعيّ وإن كان هذا النقد هو أهمّ ما ينتجه النقّاد العرب. والسبب بسيط يعود إلى أنّ الجامعة هي موطن إنتاج المعرفة بالأدب ولها تقاليدها وقواعدها ومقتضياتها التي تبدو صارمة وأحيانا تبعث على الضجر. ولكنّ المطلوب من النقد الجامعيّ المختصّ لا يتطابق بالضرورة مع انتظارات عموم المتأدّبين والمتابعين للشأن الثقافيّ. فالأغراض التي تعلّق بالنقد الجامعيّ متعدّدة ولا تحقّق بالضرورة التواصل مع القطاعات العريضة من المثقّفين وبالخصوص الأدباء والمبدعين. ربّما كان الإشكال عائدا إلى شيء آخر غير ما أسميته أنت بالتطبيقات المدرسيّة الصارمة. فهناك غياب لأصناف أخرى من معالجة النصّ الأدبيّ والإبداعيّ ومقاربته بأدوات وذائقة أشدّ التصاقا بما في الأدب من طابع تفاعليّ. فالنقد الأدبيّ الصحفي مثلا فنّ قائم الذات نجده في كبريات المجلاّت والملاحق الثقافيّة العالميّة ولكنّنا في عالمنا العربيّ يندر أن نجد صحفيّا بنى شهرته على النقد الأدبيّ الصحفيّ. والمفارقة أنّ الأدباء الذين يتبرّمون، عن حقّ في أغلب الأحيان، من النقد الجامعيّ تجدهم فرحين أيّما فرح إذا درّس أحد أقسام العربيّة في الجامعات عملا من أعمالهم أو كتب أحد الأكاديميّين عنه "بحثا" صارما يطبّق فيه مقولات أكل عليها الدهر أحيانا وشرب. هنا لا ألوم المبدعين.. ولكن ثمّة خلط لدى عدد من زملائنا الأكاديميّن بين الخطاب الأكاديميّ عن الأدب والخطاب الثقافيّ والإعلاميّ بما يسبّب بلبلة في الأذهان فيضعف من قيمة النقد الجامعيّ ولا يبلغ، في الآن نفسه، ما يبلغه النقد الصحفيّ الثقافيّ من متانة وقيمة. مرّة أخرى سوء التفاهم يسود العلاقة بين مؤسّسة الجامعة والمؤسّسة الثقافيّة لأنّ الوعي بالحدود وشروط التفاعل محدود في ظنّي.

- في تهافت أغلب الأعمال الفائزة بالجوائز الأدبية العربية ما حفز الكثيرين على التشكيك في نزاهة تلك الجوائز وفي حياد لجان تحكيمها، وهو تشكيك يجعلنا نتساءل عن جدوى الجوائز بالنسبة إلى المبدع؟

*  ليس الأمر في ظنّي على ما وصفت بالضرورة. فقد شاركت في لجان للجوائز وجلّها اشتغلت بطريقة مرضية. فقبل الحكم على نزاهة اللجان ينبغي النظر في الأعمال المرشّحة لأنّ المسألة نسبيّة. ولكن هذا لا يعني أنّ بعض اللجان خالية من الحسابات الضيّقة والأساليب الملتوية والاعتبارات الشخصيّة. وقد فضحت بعض هذه الألاعيب حين وجدت ما أعلنته بعض اللّجان غير منصف، ولم أتردّد من موقع أخلاقي وأدبيّ في التنديد بذلك. بيد أنّني لا أعتقد أنّ أغلب الأعمال التي حصدت الجوائز في تونس أو في العالم العربيّ تفتقد إلى المعقوليّة. فجلّ الروايات التي حازت على البوكر العربيّ مثلا محترمة وهي جديرة بها. على الأدباء أن يتخلّوا شيئا ما عن نرجسيّتهم. فالرهان ليس ماليّا بقدر ما هو أدبيّ ورمزيّ مهما تكن قيمة الجائزة. ثمّ إنّ نظام الجوائز جزء من المؤسّسة الأدبيّة، بالمعنى السوسيولوجيّ، وهي مؤسّسة مازالت في حالة إرساء وبناء في عالمنا العربيّ وتحتاج إلى تدعيم. ولا أظنّ أنّ مثل هذا التشكيك المنهجيّ سيضيف شيئا. فحتّى نوبل للآداب لم تخل من هذا النقد والاحتجاج لكنّ الثابت أنّ الحائزين عليها، في أغلبهم على الأقلّ، من كبار الكتّاب. أمّا ما عدا ذلك فهو أمر مطروح للنقاش على أسس جماليّة وأدبيّة وثقافيّة لا ذاتيّة نرجسيّة.

-  تُحيل وقائع الربيع العربي على اهتراء سلطة المثقَّفين بعدما تجاوزتهم جموعُ شعوبهم إلى الثورة على الواقع والتجرُّؤِ على انتهاك ما فيه من قداسات سياسية. فهل من سبيل يلوذ بها المثقّف، إن صحّ هذا المعطى، لإعادة سلطانه الرمزي لدى مجموعته الاجتماعية؟

* لا أعتقد أنّ المسألة بهذه الحدّة رغم ما قيل عن غياب المثقّفين والقيادات والأحزاب والوعي العفويّ للجماهير... فلا ننسى أنّ الشعارات التي رفعت خلال الربيع العربيّ، قبل أن يجتاحه الإخوان بشعارات الهويّة المريضة المأزومة، تعبّر عن وعي مواطني اجتماعيّ لا يمكن أن يكون بمثل تلك العفويّة المزعومة. إلاّ أنّ فعل الثقافة وتأثيرها بطيئان لا يكادان يلمسان. علينا ألاّ ننسى مثلا أنّ مفاهيم الحرّيّة والديمقراطيّة والكرامة.. مفاهيم حديثة بمحمولها السائد اليوم وهي نتيجة اشتغال ثقافيّ ونظريّ مهمّ. في تونس مثلا قام بالثورة أبناء مدرسة الجمهوريّة الحديثة الذين ربّاهم وثقّفهم رجال ونساء حملوا قيم الحرّيّة والكرامة ولقّنوها لهم ولا ننسى أنّ لمصر أو سوريا تقاليد ثقافيّة حداثيّة عريقة. وحين ننظر اليوم نجد المثقّفين، في تونس على الأقلّ، يؤدّون، مهما قيل، وظائف كبرى من خلال مساهمتهم النوعيّة في عمل جمعيّات المجتمع المدنيّ ووسائل الإعلام وحتّى في المجلس التأسيسيّ عند صياغة الدستور. أنسيت أنّ أهمّ ما في المنظومة الحقوقيّة الكونيّة مضمّن في الدستور التونسيّ الجديد بما في ذلك حرّيّة الضمير؟ أتعتقد أنّ هذا أمر متاح للجميع؟ أليس هو من صنع المثقّفين الواعين المتعلّقين بقيمة الحرّيّة؟ وأصدقك القول أنّني شخصيّا تعلّمت عن الديمقراطيّة والحقوق والحرّيّات ونظام الحكم من رجال القانون التونسيّين في تدخّلاتهم وجدالاتهم المكتوبة والمرئيّة والمسموعة أكثر ممّا تعلّمت من الكتب. لقد أدّوا دورا بيداغوجيّا تربويّا لا يمكن أن يؤدّيه إلاّ المثقّفون. علينا أن نكون رحماء بمثقّفينا وألاّ نسقط عليهم أوهامنا وتصوّراتنا وتبرّمنا من السياسيّين وأكاذيبهم.. لا شعب يمكنه أن يدخل مدارات الحداثة دون نخبة مثقّفة مهما بدت حركة الجماهير عفويّة. ربّما ثمّة تغيّر في وظائف المثقّفين ومكانتهم وصورهم ومسالكهم في التأثير، ربّما تغيّرت سلطتهم وأضحت أخفى ولكنّها ستظلّ قائمة على نحو من الأنحاء.

- كيف تقيّم أداء السياسيّين في تونس؟ هل تثق في خطاباتهم؟

*  ماذا تطلب من لاعب كرة قدم ظلّ على مقعد البدلاء دون تدريب لمدّة تفوق العشرين عاما ثمّ أقحمه المدرّب للعب في مباراة مصيريّة؟ هكذا هي حال سياسيّينا بعد أن قضى الرئيس الأسبق على كلّ حياة سياسيّة.. لكن هذا لا ينفي أنّ أداء الطبقة السياسيّة في تونس ضعيف ومترّدد ومخيّب للآمال في مجمله لكنّ المشهد السياسيّ التونسيّ ما يزال في حالة تشكّل ونحن نحتاج إلى ولادة طبقة سياسيّة جديدة. أمّا مسألة الثقة في خطاب السياسيّين فأعتقد أنّ الأمر يتّصل بالوظيفة النقديّة للمثقّف عموما وموقعه الأخلاقيّ المتجاوز للحسابات الحزبيّة وشهوة السلطة. ففي اعتقادي أهمّ ما جاءت به الثورة التونسيّة هو قيام السلطة المضادّة لأوّل مرّة في تاريخنا.. وشخصيّا اخترت موقعي منذ البداية ضمن هذه السلطة لريبة متأصّلة فيّ من السياسة والسياسيّين...

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024