ساندي شمعون في "مترو المدينة"..بين شيوخ مصر وتجويدهم

حسن الساحلي

الأحد 2019/05/12
منذ انطلاقته، عمل في "مترو المدينة" مجموعة من المغنيين اللبنانيين والعرب الذين تقاسموا برنامجاً فنياً وغنائياً يعيد الإعتبار للطرب والتراث الغنائي اللبناني والمصري خلال القرن الماضي. بعض هؤلاء كان معروفاً قبل افتتاح المكان في العام 2012، ويمتلك تجربة ناضجة، مثل عبد الكريم الشعار، خالد صبيح (فرقة "ربيع بيروت")، وياسمينا فايد (مع زياد سحاب)، وجزء آخر يمارس الغناء لكن تجاربه أقل، وتعرف الجمهور عليه أكثر في "مترو المدينة"، وتطورت تجربته الغنائية خلال السنوات الماضية. من هؤلاء: فراس عنداري، سماح أبي المنى، خضر رجب، كوزيت شديد، إيلي رزق الله، وساندي شمعون. في هذه السلسلة، نقدم شهادات وسير هؤلاء المغنيين للتعرف أكثر على العوالم المتباينة التي أتوا منها وخلفياتهم الفنية والعلاقة التي تجمعهم بأساليب الطرب والغناء. 
غنت ساندي شمعون للمرة الاولى في عرض لينا أبيض "عائد إلى حيفا"، بدون أن تظهر على المسرح، وبعد تعرفها على خالد صبيح في العام 2012، شاركت في تأسيس فرقة "الراحل الكبير" التي عرضت بعد عام أول حفلاتها في "مترو المدينة". عرفت ساندي في أدائها أغاني الشيخ إمام، بالإضافة إلى مشاركتها في مشاريع "مترو" الأخرى مثل "متروفون"، "أغاني سرفيسات"، "مسرح سيد درويش"، والولادة 88" (صاحبة الفكرة أيضاً)، وتشارك هذا الشهر في حفلات "ليالي أضواء المترو". 
هذه المقالة أو البورتريه، استندت إلى إجابات شمعون على أسئلة طرحتها عليها، حول تطور تجربتها الغنائية، مع إضافات لكاتب السطور في محاولة لخلق سرد أكثر اتساقاً: 
لم تكن مهنة الغناء هدفاً بالنسبة لي يوماً، ولا يزال جزء مني غير مقتنع أني أصبحت مغنية. في الأصل كنت أريد أن أكون ممثلة، وقد درست المسرح من أجل ذلك. دائماً وجدت الوقوف وأداء أدوار أشخاص آخرين على الخشبة أسهل بكثير من الغناء. عندما يتعلق الأمر بالمواجهة بالصوت، لا أعرف لماذا كانت تتعقد الأمور بالنسبة اليّ. كثيرون قالوا لي خلال مراهقتي ولاحقاً عندما أخذت صفوف مسرح مخصصة بالصوت والإلقاء، أن خامتي جميلة، ويجب عليّ تطويرها. إلا أني كنت معتادة على هذه التعليقات، لأني قادمة من بيت يحب الغناء، خاصة من طرف أمي التي تنتمي لعائلة بقاعية من اليمونة (شرَيف)، عرف أبناؤها طويلاً بهذه المهنة.

لكن الأمر لم يكن يعني لي الكثير، ولم أعمل من أجله. كان الغناء أمراً شخصياً فقط، أقوم به بيني وبين نفسي، من دون تدخل أحد ومن دون عيون كثيرة حولي. خلال طفولتي، كانت العطلة المدرسية، تعني لي تمضية اليوم بأكمله، وأنا أغني لنفسي أمام المرآة. أجرب ثياباً من خزانة أمي، وأقوم بأداء أدوار استعراضية وغنائية شبيهة بتلك التي كنت أراها على الشاشة. أغني لإسعد نفسي أولاً، لذلك عندما أصبحت الأمور أكثر جدية، وأصبح الجمهور جزءاً أساسياً من العملية، وجدت صعوبة في الإستمتاع.

أمضيت المرات الأولى التي صعدت فيها على المسرح، وأنا أحاول التخفف من الثقل، أسأل نفسي كل يوم ما الذي أتى بي إلى هذا المكان. في النهاية تحسن الوضع تدريجياً خاصة بعد جلسات التمرين الكثيرة مع "الراحل الكبير"، والحفلات التي قدمتها في "مترو". وفهمت أن الموضوع لا ينحصر بالغناء بطريقة صحيحة أو لا، بل هناك دور للجسد والإحساس والمكان الذي أتواجد فيه، ولن أنجح من دون خلق علاقة جديدة تكون ذات بعد شخصي أيضاً مع الغناء كما كان الوضع سابقاً.

ينسحب هذا على علاقتي بأغاني الشيخ إمام. عندما بدأنا الاستعداد للحفلات المخصصة لأغانيه، قررنا اختيار أعمال نحبها وتربطنا علاقة شخصية بها. لم نسأل كثيراً عن الأغاني المعروفة وعن تلك المرتبطة بالذاكرة النضالية والسياسية للبعض، واخترت أغانيّ المفضلة منذ مراهقتي. استمعت للشيخ للمرة الأولى وأنا في الرابعة عشر، عن طريق الصديق (الراحل) باسم شيت الذي كان عضواً في الحركة الإجتماعية التي انتميت إليها تلك الفترة. من عاداتي الغريبة يومها أني كنت أركز على مطرب واحد وأشتري جميع كاسيتاته، وقد حصل الأمر نفسه مع الشيخ إمام، لكن الفترة طالت أكثر طبعاً. اشتريت كل ما استطعت الوصول إليه، وأمضيت فترة طويلة لا اسمع لأحد غيره. أصبح لديّ هوس بأغاني مثل "أحزان القرد" و"ملاح يا اسمراني"، و"دلي السيجارة"، وجميعها أعدنا تقديمها اليوم، وكان المثير بالنسبة إليّ هو اكتشاف نسخ مختلفة من نفس الأغنية، والتجديد الدائم في كل مرة يعزف ويغني فيها أعماله، وهي ميزة غير رائجة.

لكن الإستماع شيء والأداء شيء آخر. فليس من السهل غناء أعمال الشيخ إمام، خاصة بما تتطلبه من نفسِ طويل ونقلات مقامية كثيرة، ومع كل التعقيدات في أداء الكلمات. عندما تعرف الشبه بينك وبينه وتفهم عليه أكثر ماذا يحاول أن يفعل، تصبح الأمور أسهل، ومن الجيد أني أعمل مع موسيقيين مثل أحمد الخطيب وسماح أبي المنى وعلي الحوت، يمتلكون علاقة وثيقة معه. منذ البداية ركب مزاجنا معا، ونحن نستمتع كثيراً خلال الحفلات. كما أني كنت محظوظة أن شخصاً مثل عماد حشيشو كان إلى جانبي، فقد كان نصف المشروع لوحده، بما يحمله من فهم عميق لاشتغال الشيخ إمام الموسيقي، واعتمدت عليه كثيراً لأفهم ماذا أغني وكيف أغني.

المضحك أني لم أهتم يوماً بمعرفة التاريخ السياسي لأعمال الشيخ إمام، أو تفاصيل قصة حياته، بقدر ما أحببت مراقبة طريقة تقديمه الأغاني فهو يضحك خلال إحدى الأغنيات. صرت أمضي ساعات طويلة وأنا أشاهد فيديوهاته على يوتيوب، وأستمع إلى القصص التي كانت وراء كل أغنية، ومن الجميل أننا من حين إلى آخر، نكتشف مادة بصرية جديدة له لا نعرفها.

مع الوقت أصبح الشيخ إمام مثل مرآتنا، ارتديناه من دون أن ندري، وخيّمت روحه علينا. خلال الثورات، سافرت كثيراً إلى القاهرة ومناطق أخرى في مصر (للعمل في مجال الأفلام الوثائقية). كنت أحب فرقة "اسكندريلا" كثيراً، لكني أحببت أيضاً "السيرة الهلالية" في الصعيد، وأدمنت الإستماع إلى شيوخ مصريين، مثل النقشبندي ومحمد عمران. كثيرون اليوم يقولون لي أن هناك أفضل منه، لكن بالنسبة إليّ محمد عمران يبقى الأفضل. أداؤه يسحرني وطريقته اللامبالية والمتمكنة في آن أجدها جميلة جداً، خاصة أنها مفعمة بالحنية. في حال عودته اليوم إلى الحياة سأصبح من دون شك من أتباعه!

كنت أحب كثيراً صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد فهو ينقذني في مناسبات التعزية. كما أن أبي يجيد تجويد القرآن، وأعتبر نفسي محظوظة لأني متصالحة مع هذا التراث ومتخلصة من العقد المتعلقة بالدين التي كانت موجودة عند كثيرين من أصدقائي. الحال مشابه مع أعضاء "الراحل الكبير" فخالد صبيح (مصري الأصل) متخصص في الإنشاد الديني في مصر، إلى جانب اختصاصه في الدراسات الإسلاميّة. والتعلق بالغناء المصري وتراث الشيوخ من الأمور التي تجمعنا في الفرقة، كما أن الثورة المصرية ألهمتنا وأثرت علينا كثيراً، وكل هذا يفسر المزاج المصري الواضح للفرقة الذي، يستغربه ويتساءل عنه بعض الأصدقاء اللبنانيين دائماً. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024