مونيكا بورغمان لـ"المدن": الضوء في تدمر هو وسيلة تعذيب!

روجيه عوطة

الخميس 2016/04/21
يصعب على المرء أن ينتهي من مشاهدة فيلم "تدمر" لمونيكا بورغمان ولقمان سليم (يُعرض الخميس خلال مهرجان "فيزيون دو ريال" في نيون السويسرية، ولاحقاً في بيروت) من دون أن يحس بأن حاله قد انقلبت رأساً على عقب، وأصابه شعور العار، العار لأنه إنسان، على قول بريمو ليفي. فالفيلم، الذي يوثق اوضاع المعتقلين اللبنانيين السابقين في ذلك السجن البعثي، تؤلفه روايات ومشاهد كثيرة، يخبرها ويؤديها المحررون منه، وذلك، بعد أن اقدموا هم أنفسهم على بنائه وصناعة وسائل تعذيبهم. لم يتذكروا ما كابدوه فقط، بل إنهم أحيوه، أخرجوه من دواخلهم، وقدموه أمام الكاميرا، كما لو أنهم يتحدثون عن تجاربهم الشخصية لكي يقولوا في تجربة كل معتقل، كل سجين، في مهاجع نظام الكيماوي والبراميل المتفجرة.


عن الفيلم، الاشتغال عليه، تشكيله، ومشاركة المعتقلين السابقين فيه، هنا، حوار لـ"المدن" مع مونيكا بورغمان.


كيف عملتم على الفيلم؟
بعد فيلم "massaker"، "مجزرة"، الذي طرحت من خلاله، مع لقمان سليم وهيرمان تايسن، سؤال الإقدام على العنف، اعتقدت بأني تناولت هذا السؤال من كل جوانبه، وما عدت قادرة على المضي به أكثر. لكن، لاحقاً، وعند اللقاءات بالمعتقلين اللبنانيين السابقيين في السجون البعثية، واقترابي منهم، قررت الاشتغال معهم، وذلك، بالإستناد إلى سؤالٍ بعينه، وهو كيفية تحمل كل العنف الذي تعرضوا له. كانت عملية التحضير للفيلم طويلة ومتدرجة، ففي البداية، انطلقنا من كون التعذيب الذي مورس بحق المعتقلين هو تعذيب جسدي، ولذلك، قررنا الاستعانة بالراقص ألكسندر بوليكيفتش من أجل تحويل الألم، الذي كان يعتريهم، إلى حركة. في ما بعد، رحنا نفكر بتصوير فيلم معهم، بحيث أنهم يشاركون في صناعته، وفي تمثيله، بغاية إحياء ما عاشوه في المعتقلات، وما كابدوه داخلها. صورنا كثيراً من المقابلات معهم، وسألناهم عما يرغبون في قوله، في تقديمه. وفي إثر ذلك، فكرنا في التركيز على معتقل بذاته، أي "تدمر"، إذ إنه الأكثر فظاعةً بين المعتقلات الأخرى في "سوريا الأسد"، بالتالي، استخلصنا من المقابلات كل الأحاديث عنه، وذلك، قبل المونتاج وبعده.

لا تمثيل في "مجزرة"، وصورته كانت أكثر عنفاً، على عكس "تدمر"، حيث الصورة أقل حدة رغم قسوة الموضوع.
طبعاً، هناك اختلاف بين "مجزرة" و"تدمر"، وفي الوقت نفسه، هناك علاقة بينهما على أساس مشترك، وهو مكان التصوير، إذ اخترنا مكاناً غير محدد، بدون أن نحاول تظهير معالمه بشكل مباشر وواضح. في "مجزرة"، كان المكان مغلقاً، ولا يتيح للمشاهد أن يتنفس، ذلك، على عكس ما هي الحال في "تدمر"، الذي صُور من خلال كاميرتين، وأبقى المشهد واسعاً، لكي يستوعب المقابلات أو الحكايات الممثلة، مع الإشارة الضرورية إلى أن هذه الطريقة في التصوير تتصل بكون المعتقلين، وخلال كلامهم، يقومون بحركات جسدية، كما لو أن اللغة لا تعينهم على السرد وحدها، فهم في حاجة إلى أجسادهم لكي يعبّروا عما قاسوه.

ليس هناك عدد كبير من اللقطات القريبة في الفيلم، كأنكم لا تريدون أن تجعلوا الصورة ناقل إنفعالي فقط؟
في الزنزانات الفردية، هناك لقطات قريبة، أما، في الزنزانات الجماعية، فكانت الكاميرا تلحق حركة المعتقلين. وفي الحالين، هُم مَن جعل الكاميرا تتحرك، معتمدةً هذا الشكل من اللقطات أو ذاك. فخلال حديثهم، الكاميرا ثابتة من أجل التركيز على قولهم، على لغتهم، وخلال تمثيلهم، أو بالأحرى معاودتهم إحياء عيشهم الاعتقالي، كانت العدسة تتحرك على وقع سردهم الجسدي للوقائع.

الفيلم في أغلب مشاهده مطبوع بلون أخضر، وذلك، لدرجة الاعتقاد بأن هذا اللون هو الذي ينتج الضوء، لماذا اخترتِ اللون الأخضر وليس غيره؟
إنه لون القرف، القرف من الاعتقال، والقرف من استمراره في حق كثيرين في "سوريا الأسد"، كما إنه لون التعفن من جرائه.

تعلمين بأن في الأعمال التي تتناول الإعتقال، هناك أفخاخ كثيرة، وفي مقدمها مقولة أن الضوء هو علامة حرية، ولكن، في "تدمر" لا يشعر المرء بذلك، رغم أن ضوء الفيلم غير معتم.
نعم، هناك معنى آخر للضوء في "تدمر"، إذ إنه وسيلة من وسائل التعذيب، ولا سيما أنه يأتي من خارج الزنزانة إلى داخلها، ذلك أن الخروج من الزنانة إلى باحة المعتقل، وبطلب من الجلادين، يعني أمرين، إما التعذيب، أو الإعدام.

على طول الفيلم، لا يشعر المشاهد بأن المعتقلين "ضحايا" فحسب، وهذا ما يرفع من قيمة سردهم بالطبع، كيف تلافيتم الوقوع في فخ الضحوية؟
تفادينا ذلك على اعتقاد أن الفيلم ليس عن الإعتقال والتعذيب فحسب، بقدر ما هو عن تحملهما، ثم أن المعتقلات أيضاً تقوم بالتراتبية والتنافس في النجاة. فالمعتقل ليس مكاناً لاحتجاز الناس فقط بل لصناعتهم على أسس بعينها، أولها التسابق على الخلاص، تماماً، كما في قصة معتقل يشي به أحد رفاقه في الزنانة على اعتبار أنه التقط عصفوراً، فيعاقبه السجانون بوسائل شتى، أبرزها أكل الصراصير الميتة. "تدمر" هو نظام من النجاة، بحيث على المعتقلين النجاة من خلال الوشاية ببعضهم البعض، ومن خلال إلحاق الأذى ببعضهم البعض. إنه معمل لصناعة "الجلادين" بالتوازي مع كونه معمل القتل الممنهج، وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن نظام الأسد يبدل حراس المعتقل كل ثلاثة أشهر لكي لا يرتبطون بأي علاقة غير علاقته هو مع المعتقلين، وهي طبعاً علاقة إعدامية بحتة.

كيف استوى السرد على طول الفيلم؟
هناك طريقتان للسرد، ففي مشاهد معاودة إحياء المكابدة، جرى الإعتماد على الصورة، حيث كل شيء مفهوم، مثلاً أحد المعتقلين يمارس الرياضة في زنزانته المنفردة، أو أنه يغلق أذنيه كي لا يسمع صرخات التعذيب، وبالتالي، لا حاجة للغة من أجل التعبير عن مقاومته وضعه. وبالطبع، هناك طريقة السرد عبر التحدث والقول في أثناء المقابلات. لكن، الطريقتين متداخلتان، وتصنعان الفيلم بأكمله، مثلما أن المعتقلين السابقين أنفسهم حددوا وسائل سردهم، مرةً، عبر التمثيل، ومرةً عبر اللغة، وذلك، بعد أن بنوا ديكور الفيلم، وبعد أن أخذت الكاميرا على عاتقها إظهار وجودهم في أوضاعهم.

هل في فعل بناء المعتقلين السابقين لديكور السجن نوعاً من المعالجة لأنفسهم، من إخراج السجن منهم؟
أولاً، من أجل أن ينتهوا من المعتقل، وثانياً، كي يكونوا أقرب إلى ما كابدوه وتحملوه. فهم لم يبنوا الديكور، ولا صنعوا أدوات الضرب فقط، بل إنهم أيضاً بحثوا معنا عن مكان ملائم لتشييد المعتقل، كأنهم كانوا يبحثون عنه خارجهم، أو على سبيل إخراجه. هذا، وقد عمدوا إلى تمثيل أدوارهم، أو أوضاعهم بكل دقة، وبكل صدق، بحيث أنهم أدوا مواقفهم كأنه يتعرضون إليها في الحاضر، ولا يستعيدونها.

في "مجزرة"، أذكر أن سردية مرتكبي "صبرا وشاتيلا" كانت مطابقة لسردية الناجين منهم، ما فرق بين سرد القاتل وسرد المقتول؟
الإختلاف بين سرد الجلاد وسرد المعتقل، أن الأول لا يريد أن يحيا، أن يبقى على قيد الحياة، أن يتحمل، في حين أن الثاني يرغب في الحياة كثيراً، ويقاوم من أجلها. لم يتحدث المعتقلون عن أنفسهم فحسب بل عن كل المعتقلين في السجون البعثية، عن المعذبين فيها. يبقى أن، في "مجزرة"، سرد مرتكبو "صبرا وشاتيلا" قصة متطابقة مع قصة ضحاياهم، وفي هذا، وعلى قساوته، نوع من الإراحة لذوي القتلى. نحن في حاجة إلى السرديتين، سردية القاتل، وسردية المقتول، كي نفهم ماذا جرى.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024