حديث المثقفين الفرنسي

روجيه عوطة

الثلاثاء 2018/11/27
لا تتوقف فرنسا عن طرح سؤال المثقف، فلا يكاد يصدر كتاب يدور حوله، حتى يصدر غيره، وبينهما، مجموعة من المقالات الصحافية والبحثية. فقبل شهرين تقريباً، نشرت دار غاليمار، قصة المثقفين البطولية التي سجلها المؤرخ فرنسوا دوس في جزئين، ومدّها انطلاقاً من توثيقه لها، 45 عاماً. وقبل أيام، نشرت دار فايار، كتاب "السياسولوغ" آغات كاجيه، بعنوان "إسقاط الجدران بين المثقفين والسياسيين"، الذي دعت فيه إلى ترميم العلاقة بين الطرفين، بعدما انغلق عالم الحكم على نفسه، وراح يستعين بالخبراء وصناع الأفكار والمتخصصين في التسويق من أجل الحفاظ على وضعه المتجه صوب المزيد من تقليص الديموقراطية. لكن، في حالتي دوس وكاجيه، ثمة لازمة متكررة في كل مدونة الحديث عن المثقف، ومفادها نهاية اي دور له، وبالتالي الاهتمام بإعادة خلق موضعه في المجال العام.

من الممكن الاستدلال على مردّ موت المثقف، النبوئي، بحسب دوس، والتدخلي، بحسب كاجيه، في أمرين. بداية، صعود مثقف الإعلام الذي يستر ذلك الموت اياه، ويؤجل إماطة اللثام عنه. وهناك التحاق هذا المثقف بالتشكلات السياسية، ليس بالاستناد إلى موقعه المفترض، بل كمُتماهٍ مع أعضائها أو مسؤوليها، كأنه لا يعود هو، بل يمسي أثراً من آثار التبعية. بالتالي، المثقف الميت مستعاضٌ عنه، أو بالأحرى يجري ستر جثته، بمثقف نقّال، ومثقف يعيد تدوير الخطاب الطاغي، ومثقف حملات المناصرة... ومن هنا، يخسر فعاليته في الفضاء المواطني، وتصير غايته، ولو عن غير قصد، تعميم الامتثالية، وتعليم الخضوع بطرق ومقولات عديدة. بعبارة واحدة، يغدو هذا المثقف مؤيداً لموته، الذي سرعان ما يبثه حوله، بين جمهور متلقيه. لكن، ماذا تعني فعاليته؟

بالنسبة إلى دوس، تستوي هذه الفعالية على التالي: الطراز الأول، يتعلق بموقع المثقف كمواطن في قلب الحاضرة، حيث يضع قدرته في خدمتها عبر الإشارة إلى مسألة تعاني منها على سبيل المثال، والحث على معالجتها. الطراز الثاني، يرتبط بحضور المثقف بين الجسم الحاكم والجسم المواطني، محاولاً الوصل بينهما، لكي ينتج عن ذلك المزيد من الديموقراطية. وفي هذا السياق، يتقاطع دوس وكاجيه من جهة الكلام عن الخبراء، الذين، وحين يستعين بهم السياسيون، فلكي يوفروا لهم وسائل سلطتهم، وسبل تمتينها، وليس من أجل دفعهم نحو الالتفات إلى ما تؤدي إليه هذه السلطة بمعنى وقعها على المواطنين. الطراز الثالث، هو طراز المضي الى صياغة مشروع يتمحور حول مستقبل الحاضرة، مشروع يدفعها إلى أفق جديد، يتشارك المواطنون في تشييده، منتقلين إليه جميعهم. طبعاً، هذه كلها أمور متشابكة،  ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض، لا سيما أن قوامها صلة المثقف برجاء حضوره الاجتماعي والسياسي، صلته بالحاضرة ومواطنيها فضلاً عن حكامها. ذلك أن معرفته، البحثية وغيرها، هي عصب من أعصاب السياسة الضرورية من أجل الإبقاء على الحاضرة باعتبارها مكاناً يتساوى داخله كل القاطنين فيه. 

لا شك أن مدونة الحديث عن دور المثقفين، تحظى بشدتها عند النظر إلى مراحلها التاريخية. ولا شك أنها تنطوي راهناً على ضرب من ضروب الحنين إلى الأزمنة الذهبية لذلك الدور. لكن، في الوقت نفسه، ثمة لزوم لتلك المدونة، لتأريخها، ولتجديدها، للبحث فيها من كل جوانبها. فدور هؤلاء ليس مفقوداً، لكنه مقلوب رأساً على عقب، بحيث أنه صار مركزاً وظيفياً بعدما كانت مزاولته تجري على هامش أدوار واهتمامات أخرى. فأن يكون أحدهم مثقفاً، فهذه ليست مهنة. لكن اعتبار العكس، يؤدي إلى تحويل هذه المهنة إلى ما يُسمّى "خبرة"، وبالتالي، حاجتها إلى عرضها في السوق. وبهذا المعنى، تلاشى دور المثقف أيضاً لأنه تركّز أو تكرّس في خلاف ما هو عليه. 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024