الشعر الإباحي المغمور... من حسين مردان إلى جوزف نجيم

محمد حجيري

الأربعاء 2015/03/04
إذا أردنا إجراء مقارنة عابرة، بين انتشار الشعر الإباحي (الماجن) في العصور العربية الغابرة، وانتشارها اليوم أو في سنوات القرن العشرين، نلاحظ فرقا شاسعاً في التعاطي مع هذا الموضوع. سنضحك كثيراً على أنفسنا، وعلى من يتغنى في المنابر بالدعوة الى "تابو الجنس". ربما سنقول أن أبناء العصور العربية الغابرة كانوا في لغتهم، أكثر "جرأة" وحرية منّا، نحن أبناء الألفية الثالثة و"غلاة الحداثة" وما بعدها وما قبلها.

كان الأسلاف يبوحون بكل شيء، من الحديث عن شهواتهم الى غزلهم بالجواري والحسناوات، من دون أن ننسى كتاباتهم في السخف والحماقة والهجاء، وحتى العلاقة الجنسية مع الحيوانات كما يرد في "البيان والتبيين" للجاحظ. كانوا يسمّون الأشياء بأسمائها بلا تردد، وبالغوا أحياناً في توصيف "الفحش"، وقالوا ما عكس واقعهم الاجتماعي والشفاهي. ما يحتقروا ألسنتهم وغرائزهم، ولا حتى الكلمات التي نسميها "سوقية" و"مبتذلة". وفي هذا الإطار لا تخلو سيرة شاعر جاهلي أو عباسي أو أموي من قصيدة إباحية أو ماجنة أو متهتكة، فيما معظم الشعر العربي المعاصر والحداثوي و"ما بعد الحداثوي"، يقع في خانة التهذيب والتشذيب، يغلب عليه الإيحاء والغموض. فمنذ أن تأثروا بالحداثة الأوروبية و"الأخلاق المسيحانية"، أهمل العرب أو المشرقيون، معظم الكتب التراثية "الماجنة" أو منعوها او أصدروها بطبعات مبتورة ومشوهة كما فعلوا بألف ليلة وليلة، وطردوا الكلمات الماجنة والإباحية من قصائدهم، باستثناءات قليلة، حتى التراث الشعبي الشفاهي فتكوا بلغته ونشروه بنسخ جديدة.

وخلال العقود الماضية، حضر المجون بشكل خجول في بعض الأعمال الشعرية. فهناك قصائد ماجنة بعناوين "سوقية" للشاعر المصري نجيب سرور، منشورة في الانترنت، وما زالت موضع تحريم ومنع. ومجون الفلسطيني ابراهيم طوقان، في عشيقاته "المسيحيات"، كان يُتناقل شفوياً ونسْخاً، ولم يُطبع حتى اليوم (لنا عودة لاحقة له). وثمة تجارب شعرية "ماجنة"، طُبعت في كتب، مثل أعمال اللبناني جوزف نجيم، والعراقي حسين مردان. وهذا الأخير، في ديوانه "قصائد عارية"، بقي شبه مغمور، حتى أعادت "دار الجديد" اللبنانية طباعته، بنسخة طبق الأصل، وكان طُبع أواخر العام 1949، فأثار عاصفة من النقد، وأحدث ضجة في الأوساط الأدبية في العراق. فأمرت الحكومة بمصادرته وتقديم الشاعر إلى المحاكمة، في 26 حزيران 1950، ومن بين الاسئلة التي وجهت للشاعر في المحكمة، سؤال عن سرّ تسمية الشاعر لديوانه بـ"قصائد عارية". فردّ على ذلك بقوله: "إن الشاعر يجب أن يكون صريحاً في تعبيره عما يختلج في نفسه. لم أتوخّ في قصائدي إلا إظهار الحقائق العارية، ليتبينها الناس". ثم ووجه بسؤال عما إذا كان في الأدب العربي القديم ما هو أكثر صراحة من مثل هذا الموضوع، فعدّد الشاعر المتهم بعض الأمثلة. وقد استمرت المحاكمة أكثر من شهر، وشُكّلت لها لجنة أدبية من كبار الأدباء، أعلنت في النهاية أنّ ما جاء في ديوان الشاعر لا يشكل جريمة، وعند ذاك قرّرت المحكمة الإفراج عن الشاعر وديوانه.

ديوان "قصائد عارية"، قاله مردان في عاهرات الميدان في بغداد، متأثراً بالشاعر الرجيم بودلير، وقد اعترف مردان في إحدى قصائده قائلاً: "لقد رضعت الفجور من ثدي أمي وترعرعت في ظلال الفجور!!". وافتتح قصيدة "براكين"، بعبارة: "أنا لم أرَ بركاناً يتفجر أشد مما يتفجّر به صدرُ امرأة"، وأعلن في قصيدة "زرع الموت" أن "ابليس والكأس والماخور أصحابي/ نذرتُ للشبق المحموم أعصابي/ مِنْ كل ريانة الثديين ضامرة/ تجيد فهم الهوى بالظفر والناب"... وعن قصيدته "لعنة ابليس" قال: "لم أؤمن بالحب يوماً. لكن هذه الفتاة لست أدري لمَ لا أستطيع نسيانها. لقد ذهبت، وقد لا أراها مرة ثانية. ولكن نظرتها ستظل تنبش في عظامي إلى الأبد"... ولعل مثل هذا العبارات التي تسبق القصيدة، أقوى من القصيدة نفسها، وربما يكون الاختزال بالنثر أعمق من النظم.

يبدو مردان ماجناً لكنه ليس متبذلاً. يقول واقع الأمور من دون مواربة: "لا تعبد المرأة إلا الرجل الذي يخضعها لشهوته". شكّلت صدمة "قصائد عارية" كسراً لحدود المطبوع المتعارف عليه من منظور قيمي للمجتمع، وخطوة في ما اصطلح عليه النقاد بـ"الأدب المكشوف"، واشتهر منه في زمن مضى ديوان "أفاعي الفردوس" للشاعر الياس أبو شبكة، وديوان "أغاني الربيع" للشاعر فؤاد بليبل. وثمة من يقارن بين حسين مردان والياس أبو شبكة، ويقارب شعره مع شعر بودلير لناحية تقارب المناخ في الحديث عن وجدانية العلاقة بالنساء بل عن الغريزية الخالصة. وبين هذه المصنفات "الماجنة"، كان جوزف نجيم أشبه بالغائب، والدراسات حوله نادرة.

أذكر في منتصف التسعينات من القرن الماضي، حين عرض عليّ صاحب إحدى المكتبات "الانتيكا" ديوان "جسد" لجوزف نجيم. كان يقدمه باعتباره "جوهرة"، غير متوافرة في المكتبات الأخرى، ويتضمن مواضيع نادرة (أي الشعر الإباحي) وغير منتشرة في الشعر العربي الحديث. لم أتشجع على اقتناء الكتاب بطبعته الأولى الجذابة والساحرة، أولاً بسبب ارتفاع ثمنه في مرحلة كانت ضحلة لناحية المدخول الشهري، وثانياً بسبب أني كنت أنفر من كل الشعر الكلاسيكي الذي تشربناه في المدرسة، وهذا قبل أن اعود إلى بعضه لاحقاً. لم أقتنِ الديوان، لكن عنوانه واسم صاحبه بقيا في ذاكرتي. كأن كلمة "جسد" في عنوان الكتاب كانت كافية لابقائه في الوجدان، أحفظه في ذاكرتي، لكني نادراً ما قرأت عنه في الصحف أو المجلات. وحين صدر في طبعة جديدة قبل أشهر، عن "دار نلسن"، بدا بعض متلقيه وكأنه يكتشفه للمرة الأولى، والبعض الآخر يعيد اكتشافه.. هو الشاعر الذي قتل بطريقة غامضة، العام 1983، وفي الوقت نفسه صارت كلمة "جسد"، التي كانت نقطة الجذب فيه، علامة للنفور بسبب كثرة استهلاكها وتحولها إلى كليشيه، ومشجب تُعلّق عليه الرَّداءات الثقافية..

حين حصلتُ على أعمال نجيم في طبعتها الجديدة، لم ترُق لي في مشهدها الجديد وورقها اللامع، كأني عشتُ حنيناً للكتاب بطبعته القديمة، كأن لهذه القصائد زمنها الغابر. ومقدمة الشاعر جوزيف صايغ، التي رافقت الطبعة الثانية، رغم غناها، لم تكن كافية للإضاءة على تجربة الشاعر. فهذه الأعمال تحتاج، قبل كل شيء، دراسة عن أحوال الشاعر بكل تجلياتها الشعرية والحياتية والسيكولوجية، وحتى طريقة موته الغامضة أو الملتبسة، والتي لا نعرف أي شيء عنها. وفي مجمل الأحوال، تضيء مقدمة صايغ على الجانب اللغوي في شعر نجيم: "كان شاعرَ الجسد. قاله ملءَ مجد السرير، ومجَّده ملءَ شِعره، وانتحر فيه، وفيه بُعِث. فما أَماته أَحياه. ما هو هذا الجسد الذي صنع منه جوزف نجَيم تُحَفَه؟ منه، ومن اللغة طبعاً. لغةٌ أَصيلة أَثيلة، تمكَّن منها، فاستغواها، فاستجدَّتْ وجادتْ على قلمه حتَّى لَتخالها غير ما اللغة". يضيف صايغ: "شاعر لا يترك قارئه حياديًّا. معه، إذا كان الشِّعرُ هواه. عليه، إذا كان من المخلِّقين. لكن هذه محسومةٌ في الجماليَّات. إن هذا الشعر، الذي يدور في ما يدور على العهر، ليس عاهراً، إنه شعر فحسبه".

وها هي أعمال نجيم الكاملة، تصدر بعد 31 عاماً من غيابه وتجاهله شعرياً، وهو كتب القصيدة العمودية والكلاسيكية معتمداً لغةً على "شفير الاباحية"، وتقترب لغته من مناخات لغة سعيد عقل، مع فارق أن الأخير يميل الى الجمالية، أما الأول فيغلّب على أعماله الطابع الأيروسي - الجمالي.

ورغم ان المرأة هي الحاضر الأبرز في قصائده، لكنها في الواقع تبدو غائبة عنه أو أم حسّها كان بعيداً منه، وهو ينشده، كأنه يعيش يُتمها، أو كأنه يتخيل امرأة ينبغي أن تكون في سريره ولا تكون:
أشم منها جسداً يسفكُ
فبعضها يريح في بارد
دغدغة مثل لقاء لها
تتقن أن تعرى فتعرى كما
فأبيضٌ ينزع من أبيض
فصدرها يضيء في لفتة
وتوقظ النهدين مغمورة
 
 ويسترسل في مكان آخر:
وفي سريرك انطفأنا معاً هل يذكر السرير كيف اشتعل؟


(*) هذه حلقة أولى من سلسلة مقالات ستتناول الكتب الجنسية والإباحية في الثقافة العربية.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024