فليستقِل نوّاب "القوّات" تضامناً مع طرابلس

أسعد قطّان

الجمعة 2021/01/29
كان أبي في مجالسه يتندّر بهذه الحكاية: أتى أحد الفقراء، ذات يوم، إلى البيك، وكان نائب منطقته، وطلب منه أن يساعده في الحصول على وظيفة في الدولة. فأشار إليه البيك أن يكتب اسمه على ورقة، ثمّ دسّ الورقة في جيبه ووعده خيراً. بعد أسابيع، قصد الفقير البيك ثانيةً وسأله ماذا حلّ بالوظيفة الموعودة، فكان جواب البيك له: "ستأتي، ستأتي. ولا يهمّك. اسمك بالجيبة".

حين أعلن سمير جعجع بعد انفجار مرفأ بيروت أمام أهل الأشرفيّة أنّ استقالة نوّاب حزب "القوّات اللبنانية".. "في جيبتهم"، تذكّرتُ حكاية أبي، وشعرتُ بالخجل. كما شعرت بأنّ هذه الحكاية تفضح كلّ خواء المعنى الذي رشح ذلك اليوم من كلمات الحكيم. قرار نوّاب "القوّات" آنذاك البقاء في المجلس النيابيّ، رغم أنّ المنطقة المنكوبة بالانفجار هي تاريخيّاً قلب حزبهم النابض في بيروت منذ الحرب الأهليّة، وكان قراراً تكتيكيّاً مدفوعاً بحسابات سياسيّة. لكنّ اللحظة كانت تستدعي موقفاً أخلاقيّاً، لا سياسيّاً. فالأخلاق فوق السياسة، وهي مرجع السياسة. وحين تفرغ السياسة من الأخلاق، يبدأ الانحلال، وتتحوّل الممارسة السياسيّة إلى ما يشبه الترّهات التي يتبادلها لاعبو الطرنيب لئلاّ يضجروا من اللعبة التي يُفترض بها أن تسلّيهم.

يعرف نوّاب "القوّات" أنّ القرار كان مجرّد تكتيك سياسيّ. لا يعوزهم العقل، ولا يعوزهم المفكّرون الذي يدركون أنّ الأخلاق يجب أن تكون قاعدة السياسة. يعرفون هذا كلّه لأنّهم يعرفون أنّ مشكلة مجلس النوّاب بنيويّة، وأنّ كلّ الأسباب التي ساقوها كي يبرّروا بقاءهم في الندوة البرلمانيّة بعد الجريمة الماحقة، هي مجرّد أعذار "أقبح من الذنب". لا شيء يبرّر هذا البقاء، لا إقرار قانون رفع السرّيّة المصرفيّة، ولا الدفاع عن قانون انتخاب يعتبرونه إنجاز الإنجازات. لا شيء يبرّر لأنّ ثوّار 17 تشرين سحبوا من المجلس النيابيّ شرعيّته الشعبيّة حين قطعوا الطرق كي يمنعوا النوّاب من الوصول إلى ساحة النجمة. لا شيء يبرّر لأنّ هذا المجلس-المهزلة فشل في مراقبة السلطة الإجرائيّة، التي ارتكبت بسكوتها وإهمالها وتغاضيها جريمة المرفأ، وفشل في محاسبتها. والذي يفشل في المراقبة والمحاسبة، يستقيل ولا يتلطّى وراء حجج واهيّة وكلمات جوفاء عن الاستقالات المختبئة في الجيوب. قرار الاستقالة في مثل هذه الحال، قرار أخلاقيّ بالدرجة الأولى، وأمام الأخلاق تصبح الحسابات السياسيّة قبض ريح.

لكنّ الأوان لم يفت بعد. فرياح الثورة العاتية عادت لتهبّ على الوطن المنكوب بالمافيا التي تضيق اللغة بتوصيف فسادها ومكرها واحتيالها. وهي تهبّ اليوم من باب الفيروس الخبيث، ومن باب الفقر، ومن باب مدينة الفقراء طرابلس "أعجوبة الأرغفة الناضجة والمتكاثرة" و"قهوة نسائم البحر" كما كتب عنها أحد الشعراء قبل أيّام. مَن يريد أن يستردّ كرامته التي سلبها منه بقاؤه في الندوة البرلمانيّة بعد انفجار المرفأ، فليستَقِل اليوم من أجل طرابلس الفيحاء الحزينة النازفة. ولماذا لا يكون نوّاب "القوّات" في طليعة هؤلاء؟ إنّ أرواح الذين ماتوا في مرفأ بيروت، وعلى مرأى من بحر بيروت المطعون في موتهم، ليست أغلى من أرواح الذين يجوعون في طرابلس على مرأىً من بحرها الكسير بسبب جوعهم. فليُثبت لنا نوّاب "القوّات" المعارضون أنّهم أقوى من فدراليّة الطوائف التي ما زالت تمهر حزبهم بختمها. فليثبتوا لنا أنّهم ما زالوا قادرين على التضامن مع ضحايا انفجار مرفأ بيروت، حين يتضامنون مع الجائعين والمياومين وصغار الباعة في طرابلس، وحين يستقيلون من أجل طرابلس... ومن أجل بيروت، ولو متأخّرين. لم يفت الأوان بعد. فليستقل نوّاب "القوّات" اليوم، كي يعطوا صوتاً للأخلاق في الممارسة السياسيّة... وكي يحترمهم الناس من جديد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024