سامي مهدي... عن يهود العراق

المدن - ثقافة

الجمعة 2021/09/03
شهدت السنوات القليلة الماضية ظاهرة لافتة للنظر، أعني ظاهرة الكتابة عن يهود العراق وأدوارهم في حياته الإقتصادية والسياسية والفنية والأدبية. والملاحظ أن جميع من كتبوا عنهم هم من أجيال متأخرة نسبياً، سمعت بهم، وقرأت عنهم قليلاً أو كثيراً، لكنها لم ترهم أو تتعامل معهم. وقد غلبت على هذه الكتابات نبرة عاطفية، وحنين غامض، وربما مشبوه أو مشوّه، إلى الماضي، وتنزيه ساذج، وجهل بالحقائق التاريخية أو تجاهلها أو تحريفها، مع غض النظر عن ملابسات القضية الفلسطينية وانعكاساتها، وعن دور المنظمات الصهيونية في تهجير اليهود من العراق، حتى ظهر من يشكك في دوافع هذه الكتابات وغاياتها.

ولست معنياً هنا بهذه الشكوك، ولا بالبحث عن الدوافع والغايات، لكنني أعرف عن كثب أن الطائفة اليهودية في العراق كانت مغلقة على نفسها نسبياً، لها أحياؤها وأزقتها ومدارسها وجمعياتها ونواديها الخاصة، وكانت لا تنفتح على المجتمع إلا في حدود حاجاتها المباشرة، باستثناءات محدودة، ولذلك أسبابه التاريخية والإجتماعية والدينية والسياسية.

وحين فتحت عيني على الحياة في أربعينيات القرن العشرين، كان يهود بغداد تجار جملة يهيمنون على تجارة العراق الخارجية، وباعة مفرد يسيطرون على أهم أسواقها: سوق البزازين وسوق الشورجة وسوق الصاغة المتفرّع من سوق السراي، وهم تجار وباعة بارعون نشطون يبيعون بأرخص الأثمان ويجنون في النهاية أعلى الأرباح. وكانوا صادقين في معاملاتهم، يحترمون زبائنهم ويحرصون على علاقتهم بهم، ونادراً ما يغشونهم أو يخدعونهم. وكان منهم من عملوا موظفين في دوائر الدولة، ومنهم من درسوا الطب والصيدلة والحقوق فأصبحوا أطباء مرموقين وصيادلة ومحامين، لكن هؤلاء وأولئك كانوا قلة قليلة.

أما على صعيد السياسة فقد ظهر منهم مناضلون، تسنم بعضهم مواقع قيادية في بعض الأحزاب، وخاصة الحزب الشيوعي العراقي.
.
أما على صعيد الفنون فلم يكن لهم فيها باع طويل، إذا استثنينا الملحن صالح الكويتي والمغنية سليمة مراد. فصالح الكويتي كان بحق فناناً موهوباً ومبدعاً غزير الإنتاج، وضع ألحان العديد من الأغاني التي اعتمدت المقامات العراقية واستلهمت البيئة المحلية وأسست لما عرف في ما بعد بالأغنية البغدادية، وهذه مأثرة كبيرة لا يمكن تجاهلها وغض النظر عن قيمتها التاريخية، لكن غيره من الموسيقيين اليهود لم يكونوا أكثر من عازفين في فرق موسيقية صغيرة تحيي الحفلات، بمن فيهم أخوه داود.

أما المغنية سليمة مراد فكان لها صوت جميل قوي رجولي متمكن حظي بشهرة كبيرة وإعجاب واسع، لكنه كان صوتاً واحداً من أصوات نسائية عديدة غير يهودية، مثل زكية جورج وعفيفة اسكندر، وإن كان شأنها أقل من شأنه.

ورغم ظهور أسماء يهودية عديدة كتبت الشعر والقصة القصيرة ومارست الترجمة والكتابة الصحفية بعد تأسيس الدولة العراقية بمدة، لم يكن لأي منها إنجاز شعري أو قصصي مهم يضاهي إنجازات الأدباء العراقيين الآخرين، باستثناء القاصين شالوم درويش وأنور شاؤول. فمن المتفق عليه بين الباحثين أن هذين الرجلين كانا من رواد القصة القصيرة في العراق في إرهاصاتها المبكرة الضعيفة، وكان الأول أهم من الثاني.

ولم يجرب يهود العراق كتابة الرواية إلا بعد الهجرة، ويعد سمير نقاش أبرز من كتبها منهم وهو أكثرهم غزارة في إنتاجه وأحدثهم في تقنياته. ومع ذلك لم يكن له شأن مهم في عالم الرواية، ولم يعرف إلا ضمن نطاق ضيق من المهتمين والمتابعين.

ما أنتجه يهود العراق من أدب قبل الهجرة يعد أدباً عراقياً بلا ريب. أما ما أنتجوه بعد الهجرة فيصعب تصنيفه وتحديد هويته، لكن لا يمكن عدّه أدباً عراقياً، أو عربياً، وإن كتب باللغة العربية وكان فيه من الحنين إلى العراق ما فيه. وقد يصح أن نعد بعضه "أدب منفى" كأدب نعيم قطان وسمير نقاش، لكن بعضه الآخر "أدب إٍسرائيلي" بلا لبس.

وإذا نظرنا اليوم في تاريخ الأدب العراقي الحديث فلن نعثر على أديب يهودي واحد كان له شأن مهم فيه. فكلهم، في واقع الأمر، أدباء ثانويون، مروا بهذا التاريخ مروراً سريعاً، من دون أن يتركوا بصمة مؤئرة، ولذا فإن النفخ في قيمة نتاجاتهم الأدبية يجافي الحقيقة. 

(*) الفرهود
أمس كتبت عن يهود العراق، لكن كلما ذُكر هؤلاء، ذُكر معهم "الفرهود". وثمة كثيرون يعدون هذا "الفرهود" وصمة مخجلة في تاريخنا الحديث، ويحارون في كيفية تبريره والتبرؤ منه، لكن الحقيقة هي أن جموعاً من الفقراء والغوغاء في كل الشعوب، أو في كثير منها في الأقل، تفرهد، وتنهب مما في بيوت الأغنياء وفي الحوانيت والمخازن من سلع وموجودات حين تكون ثمة ذريعة، وتجد الفرصة مؤاتية في ظروف الكوارث والأزمات والحروب والأعياد والمناسبات!

لاحظت أكثر من فرهود صغير حدث في فرنسا أيام أعياد رأس السنة، وفي بعض الاحتجاجات والتظاهرات. ولاحظت هذا في غيرها.

وقد لفت نظري أخيراً الفرهود الذي رافق إعصار (آيدا) في ولاية لويزيانا الأميركية. فالفرهود ظاهرة غوغائية عامة، و(ردّ فعل طبقي كما يقول أحد الأصدقاء) يمكن أن يحدث في كل مكان، بغض النظر عن رأينا فيه.

(**) مدونة نشرها الشاعر والناقد العراقي سامي مهدي في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024