شعب لبنان ليس من كوكب آخر

أسعد قطّان

السبت 2020/10/17
علّمتنا انتفاضة 17 تشرين أنّ شعب لبنان يشبه سواه من الشعوب. يستشعر الفقر والجوع والذلّ مثل سائر شعوب الأرض. يريد أن يعيش في أمان ورفاهية وبيئة نظيفة مثل سائر شعوب الأرض. وينتفض لكرامته مثل سائر شعوب الأرض. وهو، بفعل التراكم التاريخيّ والثقافيّ في هذه البقعة من العالم، شعب يهوى الحرّيّة بحيث تصبح الحرّيّة جزءاً من ثورته ومن لغة الثورة في لغته. هل يعشق الحرّيّة أكثر من سواه من الشعوب العربيّة؟ شخصيّاً لا أعتقد ذلك. لكنّ الأكيد أنّ معظم الناس في لبنان يتشبّثون بالثقافة الليبراليّة التي صارت جزءاً من موروثهم المجتمعيّ والثقافيّ، وهم غير مستعدّين للمساومة عليها. وكلّ المحاولات التي بُذلت لتطويعهم وتدجينهم عبر الضغط والترهيب والعنف الجسديّ والنفسيّ كانت قبض ريح.

ليس صحيحاً أنّ الشعب اللبنانيّ من كوكب آخر. هذا ما كشفته انتفاضة 17 تشرين. تأخّر في «ربيعه» العربيّ بضع سنوات، كما كان قد استبق الجميع بضع سنوات حين أزهر ربيع بيروت، العام 2005، وبشّر الطغاة بتهافت عروشهم. لهذا الشعب إيقاعه الخاصّ. ولكنّ هذا لا يجعله من طينة أخرى من الشعوب. ليس صحيحاً أنّ جوهره طائفيّ، وليس صحيحاً أنّ جوهره قبليّ، وليس صحيحاً أنّ جوهره زبائنيّ. وهو بالتأكيد ليس عصيّاً على التغيير. هذه هي الخرافة التي ألصقها به ساسته الطواغيت كي يتسنّى لهم أن يمعنوا في طغيانهم. وهم اليوم ما زالوا يروّجون لهذا الخطاب، ويحاولون أن يخدعوا به بعض شباب الانتفاضة وبناتها الذين أخذ اليأس يتسرّب إلى قلوبهم الطريّة مثل عصافير، البيضاء مثل زهر اللوز. ولكن من قال إنّ التغيير سهل؟ ومن قال إنّ الدولة التي تفكّكت وترهّلت وتحلّلت على مدى أكثر من خمس وأربعين سنة يمكن إعادة اجتراحها بسنة واحدة؟ لقد وضعت انتفاضة 17 تشرين المداميك وأظهرت «سمات الحمل»، كما كتب محمود درويش. ولكنّ الولادات من الرماد، من رماد كلّ الأشياء التي تلوّنت بالرماديّ بعدما تفجّرت بيروت وتشلّع مرفأها، فعلٌ تراكميّ ويحتاج إلى وقت. والوقت صنو القنوط وعدوّه في آن.

تعالوا نضع الأمور في نصابها. ليس صحيحاً أنّ جوهر شعب لبنان هو الطائفيّة. فلعبة السياسة القائمة على الأخلاق هي لعبة خلق البدائل. لكنّ الطغمة الفاسدة التي تتحكّم بهذا الشعب سحبت منه البدائل: في قانون الانتخاب، في قوانين الأحوال الشخصيّة، في الإدارة، في المناصب السياسيّة، وفي كلّ ما يمتّ بصلة إلى حياة الناس بوصفهم مواطنين لا أرقاماً. وهذه الزمرة التافهة منعت بالترغيب والترهيب، وحتّى بقوّة السلاح، قيام أحزاب غير أحزابها المؤسّسة على منطق المحسوبيّة والتبليع والرشوة بفتات الفتات. ثمّ أسبغت على هذا كلّه إيديولوجيا طائفيّة مُخترَعة، وسخّرت في سبيل تحصينها المال والنفوذ، واشترت القادة الدينيّين بدرهمين. فكيف تريدون، والحال كذلك، ألاّ يتصرّف اللبنانيّون على نحو طائفيّ؟ كيف تسجن الفأر ثمّ تعيّره بأنّه لا يتحرّك إلاّ من ضمن حدود سجنه؟ يجعلون الشعب طائفيّاً حين لا يعطونه أيّ بديل آخر، وحين يعطّلون آليّات المحاسبة في الدولة المستباحة، وأوّلها القضاء. خذوا أرقى شعوب الأرض وامنعوا عنه البدائل الديمقراطيّة واقتلعوا القضاء النزيه الذي يحرس لعبة الثواب والعقاب، وأنا أضمن لكم أنّه سيتحوّل إلى قطيع. لقد منع الجلاّد قيام الدولة لئلاّ يجد الناس بديلاً يستطيعون أن يتماهوا به، وكانت النتيجة أنّهم أمعنوا في تشبّثهم بالجلاد. تنتفي البدائل، فيختار الناس ما يُفرض عليهم وما هو محفور في البنى السياسيّة والمجتمعيّة التي هم أسرى لها، أي إنّهم لا يختارون لأنّهم تحوّلوا إلى عبيد. هذه سيكولوجيا الجماعات. يضطرّ الناس أن يكونوا طائفيّين وزبائنيّين ومشاركين في الفساد. يصبحون مثل الفأر السجين الذي هدّدوه بالموت إذا هو غادر سجنه، فيصدّق أنّ السجن هو ما يحميه من الموت.

يتقن الساسة الماكرون في لبنان هذه اللعبة جيّداً. تعلّموها حين كانوا أمراء حرب. وبلغوا بها إلى أرفع درجات «الكمال» والدقّة السويسريّة طوال ثلاثين عاماً. ولكنّ هذا كلّه خلخلته انتفاضة 17 تشرين. فهي استحثّت الناس على اجتراح خيارات أخرى، وحرّضتهم على النظر إلى الأشياء من «وراء المرآة»، وأثبتت أنّ الفأر السجين قادر على أن يفكّر من خارج صندوق السجن ومقولاته حتّى لو لم يتحرّر بعد. ولهذا حاربوها. وهم حتّى اليوم ماضون في محاربتها. يبشّرون بخفوت صوتها، ولكنّهم لا يصدّقون مفرداتهم حين تخرج من عفونة أفواههم العفنة. ينتقدونها بفصاحة، فيتعثّرون بكلماتهم المتورّمة مثل خلايا السرطان. والغرائبيّ أنّ بعضهم يحاربها عبر التماهي بها. ينصّب نفسه مقاوماً قديماً وثائراً عريقاً على عهود بائدة تعلّم في أحضانها غزل الحرير والغزل الإباحيّ، ثمّ ينكر على 17 تشرين طهارتها وطراوتها. وبعضهم يرى القذى في عيون بنات الانتفاضة ولا يرى الخشبة في عينه المنتفخة كما قال يسوع الذي من الناصرة، سيّد ثوّار الأرض. كلّهم يريدون أن يصبحوا مثلها ولا يستطيعون.

وهم بذلك يفضحون أنفسهم كم هم تافهون وتعساء وخائبون. فمن لا يقوى أن ينتفض على ذاته محكوم عليه بالخيبة ولا يستحقّ الحياة.

لقد حقّقت انتفاضة 17 تشرين أموراً كثيرة. عرّت الطبقة السياسيّة وفضحتها وحشرتها في زاوية التخبّط رغم أنّها لم تتمكّن بعد من اجتثاثها، فهناك في الداخل وفي الخارج من يحميها. أسقطت الحكومة تلو الحكومة. نزعت الشرعيّة الشعبيّة عن المجلس النيابيّ، وحوّلت معظم نوّابه إلى زرازير جبانة حتّى في طيرانها. خلقت ثقافةً من المساءلة السياسيّة اللاعنفيّة لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه الحديث. لاحقت الزرازير على الطرقات وفي المطاعم، ثمّ بصقت عليهم وأقامتهم في مزبلة التاريخ بعد انفجار المرفأ. وأنقذ شباب الانتفاضة مرج بسري بصدورهم العارية. كلّ ذلك رغم أنّ الانتفاضة بلا قيادة حتّى اليوم، ورغم فشلها في أن تتوحّد.

كلّ ذلك رغم ما تعرّضت له من تخوين وركوب واختراقات وتهويل عنفيّ من أحزاب السلطة وتواطؤ بعض العسكر وكثير من القضاة. لقد ظلموها حين عاتبوها واتّهموها بأنّها فشلت في التغيير. سها عنهم أنّها لا تمتلك سوى ذاتها، ولا تمتلك سوى الشمس وهدير البحر واستقامة الأفق، فيما المفسدون في الأرض يهيمنون على كلّ شيء، ويتحكّمون بالقضاء وما تبقّى من أجهزة الدولة، ويمتلكون المال، ويحتكرون التشريع وتأويل القوانين، وثمّة ميليشيا تدافع عنهم وتهزّ خاتمها الأميريّ في وجه كلّ من يحاول إسقاطهم.

لكنّ عبقريّة انتفاضة 17 تشرين لا تكمن في إنجازاتها الكثيرة التي أنجزتها رغم ضعفها ومعطوبيّتها وعمرها الطفوليّ فحسب، بل تكمن أوّلاً في أنّها حرّرت شعب لبنان من الأسطورة الكاذبة، وكشفت للملء أنّه شعب عاديّ، يفتقر مثل سائر شعوب الأرض، ويتألّم مثل سائر شعوب الأرض، وينتفض مثل سائر شعوب الأرض.

لقد كتب الشاعر اليونانيّ العبقريّ أوذيسياس إليتيس ذات يوم أنّ رجوع الشمس يحتاج إلى عمل كثير. هذه الشمس تحتاج بالتأكيد إلى وقت أطول من عمر الانتفاضة التي بلغت اليوم عامها الأوّل. فالغمام ما زال كثيفاً، والعتمة تحيق بنا من كلّ صوب. كلّ عام وأنتم بخير...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024