الثقافة اللبنانية: قول السياسة بلا مزاولتها

روجيه عوطة

الإثنين 2019/04/22
تؤكد الجولة الثانية من الربيع العربي، ما أكدته جولته الأولى: السياسة صنيعة الشارع، أكان في سوريا، أو في السودان، كما في باقي البلدان الأخرى في المشرق أو المغرب، ومعها كل بلدان العالم. لا سياسة من دون الشارع، من دون جعله ملتقىً عاماً، الفعل الأساس حياله هو النزول اليه لمواجهة القابض عليه، أو لاغيَه، بالتنسيق والتدبير. تقريباً، خلاصة الربيع هذه صارت بديهية، لكن هذا لا يعني أن العمل بها صار على نحوها، بل لا يزال سارياً الاعتقاد بأن السياسة التي لا تنتجها دوائرها الرسمية أمر بعيد المنال. أما الاعتقاد بأن هذه الدوائر هي ضد السياسة، فمناله أبعد. في هذا السياق، تبدو الثقافة، وفي كل من جَولتي الربيع، ضائعة بين السياسة كما عرَفَتها، كما اعتادت معرفتها، والسياسة كما هي الآن، كما لم تعرفها من قبل. وضياعها هذا غالباً ما أرساها على  قول السياسة من دون اجرائها، ومن دون مزاولتها، مع الاكتفاء بما يشبه ادعاءها، أو التظاهر بصلة بها. فعلياً، ماذا يعني أن تكون الثقافة مسيسة خلال الربيع العربي، وبعده؟

لم يدفع الربيع، الثقافة، إلى إيجاد جواب، إنما كشف عن كونها منفصلة عن السياسة. وعندما قررت المضي إليها، بدا انها تنفي الانفصال، وهذا لا يرادف بناءها للاتصال. قد تكون الثقافة في لبنان اكثر من سجل نفي الانفصال ذاك، إذ أنها حاولت، وعلى عكس البلد، أن تلتحق بالربيع، بثوراته، أن تحيي رغبة التغيير فيها، وبهذا ارتأت أن تتسيس. من هنا، بدت أنها تنقلب على إرث من انكار السياسة، إرث كثفته تلك العبارة التي رددها كثيرون، "الناس تعبوا من السياسة، يريدون شيئاً آخر". وبالانطلاق من هذه العبارة، كان "الشيء الآخر" مسرحيةً أو معرضاً أو فيلماً، يحاول جمعهم، فتلك العبارة مسكونة بفكرة واحدة: ان تجمع الثقافة ما فرّقته السياسة! طبعاً كان الجمع سطحياً، وفولكلورياً، صورة فسيفسائية لا نفع لها.

على أن رفض الثقافة لإنكار السياسة لم يحملها سوى على استبدال تلك العبارة، بأخرى من قبيل: "لا يجب أن تكون الثقافة منفصلة عن السياسة". ولأجل ذلك، فتشت عنها، ووجدتها قريبة للغاية، اي في الحديث السياسي، في مشكلاته، في مواقفه. عندها، سحبت هذا الحديث، وهو حديث فياض، إليها. أحياناً، لكي تعلن انحيازها فيه، وأحياناً، من دون أن تدري ماذا تفعل به. ربما، أكثر ما يعبّر عن ذلك هو ما درّجته الأفلمة اللبنانية، ومن بعدها انتقل، بشكل أو بآخر، إلى باقي المجالات. إذ درّجت الأفلام الإشارة إلى التسيس من خلال انطوائها على حديث سياسي فيها، وهو في حسبانها كناية عن نشرة الأخبار التي تمر في خلفية مشاهدتها أو في مقدمتها. هكذا، صار أصحاب تلك الأفلام يدرجونها في سياق سياسي، وحين حذا حذوهم أغيارُهم من منتجي الثقافة، في المعرض والمسرح والرواية والمغنى، بدوا أنهم يكتفون بتلك النشرة، بعناوينها الراهنة التي يعلقونها في أعمالهم. بالتالي، صارت الثقافة مضماراً لإعلام السياسة، اكثر منها مضماراً للسياسة. وبالتوازي مع ذلك، حافظت الثقافة على اختزال كل السياسة، كنشرة إخبار، بإشكاليات وحلول سائدة، كالطائفية وغيرها.

نفت الثقافة انفصالها عن السياسة عبر سحب حديثها نحوها، وجعله يمر فيها.. إما من دون أن تدلي برأيها حوله، أو لتدلي برأي يفيد برفضه، وبهذا بالتحديد، تعود إلى انفصالها عنه. ذلك أنها لا تنتقل من رفضه سوى إلى إعلان أمرين أساسيين. الأول، العودة إلى انكار السياسة، وتكرار معزوفة "تجميع ما فرقته"، لا سيما على طريقة نشاطية. والثاني، إعلان أن أي سياسة غيرها لا يمكن أن تنوجد سوى لتتحول الى موضوع للسخرية. على هذا المنوال، بقيت الثقافة أسيرة تصور معين عن السياسة، وهو إخباري بامتياز، ولم يحملها نزوعها إليها على الذهاب إلى نطاق صناعتها، وهو الشارع، بل إنه أعانها على البقاء في عالمها المغلق مع ظنها الشقي بأنها تفتحه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024