فرح إيتيل عدنان

روجيه عوطة

الثلاثاء 2021/11/16

كان يكفي لإيتيل عدنان أن ترسم خطّين، تجمعهما ثم تفرقهما عند شكل هندسي ما، من قبيل المربع أو الدائرة، ثم تلوّن بينهما، حتى تصنع، وبرسمها، أثراً، تتركه في متلقيها: الفرح. فأي فرح كان ذلك الذي عقدت عدنان على خطه في لوحتها؟ بالطبع، هنا، اضع قصيدتها جانباً، ليس لأنها كانت رسامة تكتب، بل لأنها كانت، وعلى الاغلب، شاعرة ترسم. ولهذا السبب بالتحديد، يبدو الرسم في تجربتها أنه كان يبدأ حين يتوقف الشعر، اي أنه يحضر بعده، لا لكي يلغيه، إنما لكي يحمل القدرة الإبداعية فيه إلى درجة أخرى، حيث تبرز على منوال مختلف. لا قطع بين شِعر عدنان ورسمها. تراجيدية الأول لا تعني إلا فرحاً فيه، وعلى العكس، فالثاني يبدي أنه كان داخله. الرسم يبين ما في الشعر، اي ما يحتاج الى تشكيل بالخطوط لكي يحدث، وهذا، بعد كمونه بين الشطور.

من الشطور إلى الخطوط، كانت عدنان تبرع في إحداث ذلك الكامن، فكل ما تستند اليه كان مخيلتها التي تتسم بكونها طفولية، بمعنى طلقة، وبمعنى انها، وفي سهولتها، تبدو شديدة للغاية. فقد كانت ثمة شدة في رسم عدنان، وهي شدة تنم عن تلاقي الأشكال والخطوط، ومعها الألوان. ولهذا، هي أيضا شدة-حد، مثلما انها شدة-لحظة: حد بين خط أفقي يقطع الخط الدائري في لوحة بعنوان "وزن القمر"، ولحظة تلاقي الارجواني بالبرتقالي في اللوحة نفسها. كانت عدنان تتيح لهذه الشدة ان تبدو في رسمها بلا أن يصير وقعها عليه كاملاً، فتسرع خطوطه وأشكاله، أو تقلبها إلى نقاط. في الوقت نفسه، لم تكن هذه الشدة مقيدة في رسمها، فلم ترسم عدنان كأنها تكتب محضر ضبط بحقها. شدة عدنان هي شدة تلاقٍ، سرعان ما تأخذ شكلاً وخطاً يجعلها متواصلة بلا أن تفجر اللوحة. في "وزن القمر"، الشدة موجودة، مستمرة، لكنها لا تجر المرسوم إلى كسوفه، ولا تتركه من دونها، إنما تبدو انها تتعلق معه على ظهور لا يمكن حسم كونه يميل إلى المغيب أو لا.

يمكن القول ان الفرح الذي تصنعه برسمها على صلة بتلك الشدة بما هي على حضور في اللوحة بلا أن تطيح مرسومها. فرح عدنان هو، بدايةً، أن ينطوي المرسوم على شدة تبرز عند حدوده وبعض لحظاته، وعندها، تكفل صفته الأساس، اي أنه فتحة.

ماذا يعني أن يكون المرسوم فتحة؟ بدايةً، هو فتحة على عالم غير مرئي، غير مبني، غير مشكل حتى، إنما كل المرسوم يشير، بخطوطه وأشكاله، إلى كونه هنا. عندما ترسم عدنان البراح، أي هذا الحيز الخالي في خضرة ما، تفعل ذلك كأنها تعينه بين الشجر والماء والشمس، في محل بين هذه العناصر كلها، التي تصير حوله، لكن من دون أن يكون مجسداً في لون أو خط أو شكل. البراح في ذاته غير ظاهر في لوحته، إنما هو فعلياً يسكن المرسوم، ويجعله مفتوحاً عليه. عدنان كانت تضع هذا البراح، بما هو باب أو فتحة، في كل مرسوم، ولهذا كان الفرح يصدر عنه، بما هو شعور بخلاف الضيق أو خلاف الإقامة في المقفل.



غير أن الفرح لا ينتجه وجود المفتوح في كل مرسوم، أو بالأحرى وضع هذا المرسوم على سبيل إنتاجه المفتوح. البراح اياه، الذي رسمته عدنان، يدعو إلى عمل محدد حياله، وهو التحرك صوبه. انه هنا في المرسوم، لكن بلا أن يظهر، ولهذا، يحث على اكتشافه، على الانتقال اليه. فالفرح ليس شعوراً فقط، إنما هو، وقبل ذلك، مذهب، مذهب في البراح، في المفتوح، والشعور يأتي لاحقاً.

حين رسمت إيتيل عدنان، الرحيل، فعلت ذلك بطريقة مفارقة. فنتيجة التشكيل اللوني والخطي الذي اعتمدته، جعلت المرسوم كأنه محطم في إثر حادث ما، وحطامه هذا يغلق السبيل نحو مفتوحه. من ناحية، كانت عدنان تقول أنه، في هذا الرسم، لا وجود لمفتوح، فالسواد الذي تخلله يجعل من احتمال انغلاقه احتمالاً وارداً. لكن، من ناحية اخرى، فالمرسوم يتوسط أفقاً واسعاً، وهذا الافق يبدأ عند اللون الأصفر الذهبي، الذي يفلت من المرسوم-المحطم، قبل أن يلتقي باللون الأبيض. عندها، يصير المرسوم في الأفق من دون أن يعترضه، أو يقفله، أو يمحوه. على هذا النحو، يكون الرحيل، بحسب إيتيل عدنان، هو مرسوم مغلق، أو محطم، في أفق مفتوح، ونتيجة ذلك، هو يحيل، ومن انغلاقه، وحطامه، الى الفتحة، إلى البراح، إلى الذهاب فيه، وإلى الفرح. ولهذا، قد يكون من الصعب تصور إيتيل عدنان حزينة في رحيلها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024