غسل الأيدي من العالم

روجيه عوطة

الجمعة 2020/03/20
ليس غسل الأيدي حالياً مجرد فعل عادي، فهو، وبعدما صار من إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، تغير إلى فعل لازم، بحيث نسيانه، أو التغاضي عنه، أو الإحجام عن الإقدام عليه، قد يؤدي إلى "الكَورَنة"، ولاحقاً، إلى الموت بوصفه احتمالاً. بالتالي، غسل الأيدي غدا فعلاً ينقذ من منية جائزة، أو من مذهب إليها، ولهذا، تغير معناه، أو بالأحرى استقر على تمامه.

فاتحة هذا التمام أن غسل الأيدي، ولأنه ينجي من الموت، فهو حياله بمثابة فعل خلاصي، وليست بُغيته طرده سوى لأن طرده هنا يساوي النأي عن رجائه. هذا الرجاء، ومثلما بات معروفاً، يساوي كل الأشياء من حولنا، العالم بأسره، بحيث، وما أن نمسه بأيدينا، حتى نسرع إلى غسلها. فيطرد الغسل موتنا بجعلنا ننأى عن ذلك العالم، عن عالمه، بإبعادنا عنه، وهذا، بلا أن ينقلنا، أو يعدنا بالإنتقال إلى عالم مغاير، بل إنه يبقينا داخل العالم اياه، وفي الوقت نفسه، يضعنا على مسافة منه.

لذا، الخلاص، في هذا السياق، ليس كاملاً، بل إنه يديم علّته، الأمر، الذي يحمل على تكرار الركون إليه مرة تلو المرة من أجل أن يكتمل، وهذا، ما لا يمكن أن يحصل بالطبع. ففعلياً، ليس هناك غسل قاطع، أي لمرة واحدة وأخيرة، إلا غسل الموتى ربما، باعتباره من شعائر النقل إلى الدنيا الأخرى، إلى الآخرة، أي أنه ينجي من العالم، وبالفعل نفسه، يحمل إلى سواه.

على أن الغسل، وحين يتكرر، فليس لأنه، كفعل خلاصي، غير مكتمل، ليس بسبب هذا فحسب، بل لأن العالم، الذي يدور فيه، هو عالم متمدد، إذ ينبسط بأغراضه من كل حدب وصوب، وفي كل حدب وصوب. بتمدده هذا لا يتوقف عن الوصول إلى أيدينا، وبالتالي، لا نتوقف عن غسلها منه. غسل الأيدي من العالم يحوله، بدايةً، إلى مشكلة، أو مهمة، كنا قد انخرطنا فيها، لكننا، ولأنها عويصة الحل، عدنا وانسحبنا منها. بالغسل، ننتهي من مسؤوليتنا حيال العالم كمشكلة ومهمة، من مسؤولية حله. وعلى هذا النحو، يسمح لنا الغسل أن نغدو بلا علاقة مع هذا العالم كلما بلغ ايدينا، فصحيح اننا نقف داخله، الا ان هذا لا يعني اننا مورطون فيه.

من هنا، يغدو العالم نفسه كأنه مجموع من الآثام، التي نتطهر منها. إذ صار كناية عن مأثم، يعمد إلى تدنيس أيدينا، وتوسيخها، ولهذا، نسرع إلى غسلها لكيلا يبقي آثاره عليها. لكن، هذه الآثار لا تزول سوى لتأخذ محلها من جديد، والسبب أن مأثمها ذاك، لسنا نحن الذي نرتكبه، بل أنه هو، وإذا صح التعبير، الذي يرتكبنا. بمعنى أنه هو الذي يبلغنا، نظراً إلى تمدده، الى إحاطته بنا في أثناء وقوفنا داخله. فلا يمكننا أن نحجر أنفسنا عنه، فحتى خلال الحجر الذي نُلزَم به الآن، فإنه ينوجد عبر أغراضنا، لا بل أن إثارته لنا تزداد بواسطتها.

في الحجر، جاذبية هذا العالم تتضاعف، أغراضه ومناظره تشدنا نحوها، وها نحن حين نمضي إليها، نحسب أننا نتناولها. لكن، وفي هذه اللحظة بالذات، تكون قد تناولتنا سلفاً. لهذا، يكاد غسل أيدينا منها لا يودي سوى إلى غسل الأيدي من أجلها، من أجل أن تكون هذه الأيدي نظيفة حين تمسكها. وبهذه الطريقة، غسل الأيدي، الذي يبغي الانتهاء من ارتكاب العالم، يبدو تنقية لهذه الأيدي لكيلا تلطخ هذا العالم حين يرتكبها.

في الواقع، هذه الشقلبة تنطوي على ضرب من التمني لشيء محدد، وهو أن يتمسك العالم بنا في أثناء غسل أيدينا منه، كمشكلة، ومهمة، ومأثمة، أي ألا يتركنا، ويشتغل من دوننا. مرد هذه الأمنية أن ذلك الغسل، وعلى كل معانيه، يبرز كوقوف ضد العالم مقابل النظام، الذي يحذر منه، من التعامل معه على أساس أنه بيئة خاضنة للفيروس، بيئة منتفضة عليه. فعندما يطلب منا هذا النظام أن نغسل أيدينا من العالم، فلكي نعينه في حربه عليه، في إخماده له. فعلياً، هو لا يطلب منا هذا مباشرةً، إنما مواربةً عبر حضّنا على الحياد حيال حربه، على البقاء في منازلنا، وانتظارنا انتصاره، وخلال ذلك، نواظب على غسل أيدينا، على عزل العالم، وعلى الإظهار له، وكلما مسّيناه، بأننا لا نرغب فيه، بل نسرع إلى التطهر منه. طبعاً، هذا الحياد ليس سوى إعلان موقف واضح من العالم، وهو المشاركة في اعادة ضبطه. لهذا بالتحديد، ما علينا، ونحن نهمّ إلى الغسل، سوى أن نتمنى تلك الشقلبة: في حين أننا نغسل أيدينا من العالم، يودي بنا ذلك إلى غسلها من أجله، من أجل يستمر في التمدد إليها.

ما على أيدينا أن تتطهر من العالم، ما عليها أن تتركه. النظام يريد هذا. إذ إنه، أساساً، وقبل الكورونا، يقوم بتحطيم اقتدارنا اليدوي، يقوم بتحطيم صلتنا اليديوية بالعالم. ما علينا فعل ذلك البتة، ففي حال كان ثمة شيء ما، لا بد من التأكيد عليه في المرحلة الراهنة، فهو الإيمان بالعالم، بعلاقتنا معه، بكونها تمر بأجسادنا، تبدلها، وتستوي بها. متدينون أم ملحدون، كان يردد فيلسوف راحل، "نحتاج إلى الإيمان بهذا العالم"، بعالمنا. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024