عن النقد بوصفه "غيرةً وحسداً وإحباطاً"

روجيه عوطة

السبت 2019/09/28
غالباً ما يتعرض شغيلة الكتابة، التي يمررونها عبر النقد، إلى نظرة بعينها، تفيد بكونهم، وحين ينقدون عملاً فنياً، أو ثقافياً على العموم، فهذا لأنهم لم يستطيعوا أن يكونوا من منتجيه. بالتالي، فإن نقاد الكتب أو الأفلام أو المعارض، هم في سرائرهم يرغبون في أن يكونوا أصحابها المنتجين لها، لكن رغبتهم هذه سرعان ما أحبطت، والسبب أن لا مقدرة لهم ولا حيلة على تحقيقها.


على هذا النحو، يقال إنهم ينقدون المنتجات لكي يعوّضوا إحباطهم، ثم إنهم ينقدونها لكي "يدمروا" صنّاعها من باب "الحسد والغيرة": لم نقدر على أن نكون مثلهم، فأصبنا بالإحباط، إذاً فلنقضي عليهم!

فعلياً، هذه النظرة مضحكة، لكن التوقف عند كوميديتها يشير إلى أنها تنطوي على شأنين.
الأول، تقديمها المنتج الثقافي- الفني وسواه- على أساس أنه موضوع "غيرة وحسد". وهو لكي يكون كذلك، لا بدّ أن يوفر قيمة ما لصاحبه، أي قيمة رمزية، حتى لو كانت قيمة مادية، ولا يمكن أن يتسم بها إلا إذا كانت مستمدة من إجماع عليها. بعبارة أخرى، هناك من يُشعر صانع المنتج، أي محيطه، بأن منتَجَه مهم، ويهبه قيمة، ولهذا هو مهدد بسلبه منه. وكلما طال مكوث الصانع هذا في محيطه، الذي يحميه، تزداد حساسيته في اتجاه كل ما لا يمت له بصِلة. وحين يحل النقد حول منتجه، يتلقاه كمسعى إلى سرقته، ليس سرقة المنتج فحسب، انما، وأساساً، سرقة موضعه في المحيط ذاته.

بذلك، لا يمكن أن يرى في النقد سوى قول السلب، مع أنه أقوال شتى: قول-تدبير، قول-تنبيه، قول-تطوير، قول-مقاسمة، وحين يتعدى نفسه، وهذا ضروري للغاية لا سيما راهنا، يصير كلاماً، وإذا صح التعبير "إكلاماً"، أي الحض عليه. لهذا، ولتلقي النقد كنقد، لا بد من التخفف من الحساسية، والانصراف، ولو قليلاً، عن المحيط. وإن لم يحصل ذلك، فسيظل تلقيه متأرجحاً بين كونه سلباً وكونه باطلاً.

لكن، بين قوسين أيضاً، فالوضع هذا، وضع حساسية صنّاع المنتج الثقافي بفعل الإحاطة به، بفعل استنقاعهم في محيطهم، يترك أثره في النقد أيضاً. ولعله، في الحقيقة، يغدو أثراً جيداً. إذ أن النقد، في هذه الناحية، يتحول ممارسة مضادة للإرتكاس. بمعنى آخر، يصير همه أن يهز العالق في المحيط، ويخفض الحساسية التي يفرزها. وهنا يتعدى النقد نفسه، ويصير شيئاً آخر تماماً. لكنه، حين يعود ويصطدم بالحساسية نفسها، لن يكون سلباً أو باطلاً فحسب، بل شبيهاً بالاعتداء أيضاً.

على أن تلك النظرة، نظرة أن النقد لا ينم سوى عن إحباط ممارسيه في إن يكونوا صنّاع موضوعه، وبالتالي أنهم يعمدون إلى تدميرهم "غيرةً وحسداً"، تنطوي على شأن ثان، وهو ضرب من اللخبطة: مَن ينقد موضوعاً ما، فلإبعاده، لأن هذا الموضوع يبغي أن يكون منه. فنقد الثقافة - الفن وغيره- لا يمكن أن ينطلق سوى من محاولة إرساء مسافة معها، مسافة لإبعادها، مسافة توصف بالـ"صحية". بعبارة أخرى، لا ينم النقد عن إحباط مزاوليه في أن يكونوا صنّاع موضوعه بلا أن يقدروا على ذلك. بل، على العكس، ينم عن كون مزاوليه في محل هؤلاء الصنّاع، لكنهم لا يبغون البقاء كذلك، لأن الموضوع أمامهم لا يلائمهم أبداً.

مثال: ناقدة تتناول رواية، تنقدها إلى درجة أن صاحب المكتوب السردي يتلقى النقد كقول-سلب. لكنها لم تفعل ذلك لأنها تريد أن تكون روائية، ولم تقدر ولهذا هي محبطة. طبعاً لا. إنما لأنها، وبالنقد، هي روائية، هي الروائي، لكن الرواية أمامها لا توائمها. لذا، تنقدها لكي لا تكون روايتها، لكي لا تبقى في مطرح كاتبها، ولا تظل في محيطه. إنها، ببساطة، تردّها له. فالنقد في هذا المطاف ليس قولاً-سلباً، بل قول-إرجاع. أي أنه، بالعربية، قول-إثابة، إي الإرجاع بعد التصليح!

من هنا، لا يمكن للنقد أن يكون في محيط الأنتاج الثقافي، في رجاء حساسيته، أكانت مؤسسة أو جماعة. فالنقد، ولكي يُمارس، لا بد أن يكون برّانياً، أن ينطلق من هذه البرانية إلى تلقي ذلك الإنتاج. والدراية بإن كان موائماً لها أم لا، تعني إن كان يضع المحيط اياه على اتصال بها أم لا، إن كان يخفف حساسيته حيالها أم لا. ممارسو النقد، وفي أثناء انطلاقهم من برّانيتهم إلى تلقي الإنتاج منها، يغدون في مطرح صنّاع هذا الانتاج. وحين يجدون أنه غير موائم لها، يردونه للمُنتجين، قائلين: من المحال أن نكونكم، أو أن نطمح إلى ذلك، فأنتم الذين تطمحون إلى أن تكونونا، من المحال أن يسير النقد عبر إقرار محيطكم به، بل إن محيطكم هذا يشتغل على أساس ذلك النقد، من المحال ان يصير النقد في أدناه، أن يصير حساسيتكم، لأنه هو لقاحها. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024