سكنى الله بين الناس في معرض الأيقونات الملكية

محمود الزيباوي

الأربعاء 2019/05/15
في أيار/مايو 1969، أقام متحف نقولا سرسق في بيروت معرضاً بعنوان "الأيقونات الملكية" شكّل مدخلاً للتعريف بهذا الفن المحلي. اليوم، بعد مرور خمسين عاماً، يُقام في "فيلا عوده" معرض مماثل يستمر إلى 29 أيار/مايو.

كتب الشهرستاني في "الملل والنحل": "افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وكبارهم ثلاث فرق، الملكانية والنسطورية، واليعقوبية". فرقة الملكانية هي الفرقة التي تتبع طائفة "ملك" الروم، أي التقليد البيزنطي، ومنها خرج فريق اتّحد بكنيسة روما في عام 1724، وحمل اسم "الروم الكاثوليك". كما هو معروف، ترتبط الأيقونة ارتباطاً عضويًّا باللاهوت الشرقي البيزنطي، فهي وجهه الآخر، وهي لغته بالرسم واللون. في نموّه، لم يعتمد هذا الفن على الخيال الفردي والتجربة الذاتيّة، بل استمدّ قواعده وأسسه من لاهوت كنيسة الشرق وبنى خصائصه عبر أجيال من الجهد المتواصل. نحن أمام فنّ يتبنّى تقليداً متماسكاً يتمثّل في منهج كامل يحدّد قوانينه المقدّسة، معانيه الدينيّة، تقنياته وألوانه. من هنا، تقدّم الأيقونة جماليّة دينيّة متكاملة، قوامُها رفض قواعد المنظور والتماثل والرؤية الماديّة، ومشروعها تجسيد الرؤية الحق في الإيمان والرجاء.

يقول بولس الرسول: "الرجاء المنظور ليس رجاءً، لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضا؟" (رومية 8: 24). من هذا المنطلق، تنفتح الأيقونة على اللامنظور، وتكتب القداسة بالخطوط والألوان، كاشفةً عن سكنى الله "بين الناس" (أعمال 3: 12). بعد حرب طويلة عُرفت بـ"حرب محطمي الصور"، رفع الآباء الأيقونات إلى مصاف الصليب المحيي والأناجيل المقدّسة في المجمع المسكوني السابع سنة 787. انطلاقا من هذا المبدأ، ووفقاً لأهمّيّة المكانة التي تحتلّها الأيقونة في حياة الكنيسة البيزنطية، لا تسمح جماليّة الأيقونة لرسّامها بالحرّيّة والخيال، بل تثبّت له قواعد عمله في مناهج ثابتة تحدّد نموذجيّة أيقونات القدّيسين والأعياد: التأليف الأوّل جاهز، وهو بمثابة دليل عمل ينطلق الرسّام منه فيتبع خطوطه وينفّذ إرشاداته. اتبعت الكنيسة هذا التقليد في المرحلة البيزنطية، واستمرّت في اتباعه في ظلّ الحكم العثماني حتى مرحلة متقدمة من القرن الثامن عشر. بعدها، فقد هذا التقليد قوته وتماسكه، ففقدت الأيقونة أسسها الخاصّة، وتحوّلت إلى لوحة عاديّة تماثل بأسلوبها الفنون الشعبية.

ضمّ المعرض الذي أقيم في 1969 مئة واثنتي عشرة أيقونة تمثّل تحوّلات فنّ التصوير في المشرق العربي بين النصف الأوّل من القرن السابع عشر والنصف الثاني من القرن التاسع عشر. حوت هذه المجموعة الكبيرة ثمانٍي وثلاثين أيقونة "ملكيّة" ترتبط بمحترف محلي مركزه مدينة حلب، وشكّلت هذه الأيقونات الحلبية نواة الثقل في هذا المعرض. لا نعرف الكثير عن هذا المحترف الحلبي، وما وصلنا من أيقوناته يظلّ المصدر الأساسي لتتبّع نشاطه خلال أكثر من قرن. الرائد الأوّل لهذا المحترف هو يوسف المصوّر الذي أعطى أجيالاً عدة من رسّامي الأيقونات. وُلِدَ في حلب في أواخر القرن السادس عشر وتوفّي قبل سنة 1666، امتهن رسم الأيقونات، وكان مترجماً وناسخاً ومصوّراً للمنمنمات، وكان من المقرّبين من يوحنا بولس الذي ارتقى إلى كرسي البطريركيّة الأنطاكيّة في سنة 1647 متّخذا اسم مكاريوس الثالث. من بعده، برع ابنه نعمة الله في صياغة أجمل أيقونات المدرسة الحلبيّة، ولحق به حفيده الشماس حنانيا، ومن ثمّ حفيد ابنه الشمّاس جرجس.

يقدّم يوسف المصوّر الأيقونة اليونانيّة في حلّتها التقليديّة بحيث يصعب التمييز بين أعماله وأعمال المصوّرين اليونانيّين المعاصرين له. مع الابن نعمة الله، تظهر الملامح المحلّيّة في بعض عناصر التأليف، إضافة إلى النقوش العثمانيّة التي تدخل لتملأ الخلفيّة الذهبيّة والمساحات الفارغة. تنصهر العناصر السوريّة في التأليف التراثي. تطبع الزخارف الهندسيّة والنباتيّة تشكيل الأيقونة بصداها الخاصّ. تدخل الكتابة العربيّة بأصولها النسخيّة إلى جانب اللغة اليونانيّة، وتتحوّل عنصراً عضويًّا من عناصر التأليف المختلفة. يجد الأسلوب الإنشائي القصصي صياغته المثاليّة، ويتمثّل في ابتكار مشاهد جديدة وصهرها في القالب التقليدي المعتمد منذ القرون الوسطى. تشكّل أيقونات حنانيا امتداداً لنتاج والده، وتمثل آخر تجلّيات الأيقونة قبل دخولها في عصر الانحطاط مع نهاية القرن الثامن عشر. يقارب جرجس في بعض أيقوناته أسلوب والده، وينتهج في البعض الآخر أسلوباً يغلب عليه الطابع الغربي في الموضوع كما في الأسلوب، وفقاً لتوجه فنّي طبع سائر أنحاء العالم الأرثوذكسي في تلك الحقبة التاريخيّة المتقلّبة. 

يتميّز المعرض الحالي بعرضه مجموعة كبيرة من الأيقونات الحلبية التي لم تُعرض من قبل، وتعود ملكية القسم الأكبر من هذه الأيقونات إلى الرهبانيات الملكية الثلاث، وهي الشويريّة، المخلّصيّة والحلبيّة، إضافة إلى أبرشية بيروت للروم الكاثوليك. يحضر يوسف المصوّر في عمل يتيم يُنسب إليه ولا يحمل اسمه، ويتمثّل بأيقونة تصوّر معمودية السيد، تعود إلى دير مار يوحنا الصايغ التابع للرهبانية الباسيلية الشويرية في الخنشارة. ويحضر ابنه نعمة الله في أربع ايقونات، منها ايقونتان تعودان لعام 1702 مصدرهما كذلك دير مار يوحنا الصايغ. بدوره يحضر حنانيا في إحدى عشرة أيقونة أنجز أغلبها بين 1717 و 1723، وتشهد هذه الأعمال لاستمرارية النهج البيزنطي في تلك الحقبة المتحوّلة من تاريخ الفن المسيحي الشرقي.

نصل إلى جرجس بن حنانيا، ونتاجه حاضر بقوة في المعرض من خلال ثماني عشرة أيقونة تشهد للتحول الكبير الذي طرأ على فن التصوير الكنسي في تلك الحقبة. يظهر هذا التحوّل في أثر الصور الكاثوليكية التي حملتها الإرساليات الغربية، وأبرز شواهده أيقونات تجسد مواضيع كاثوليكية صرفة لا تمت إلى الكنيسة الأرثوذكسية بأي صلة، ومنها "قلب يسوع" و"سيدة الوردية" في 1740، "الحبل بلا دنس" في 1762، و"القديس أنطونيوس البدواني" في 1764.

إلى جانب أعمال اسرة يوسف المصوّر، يقدم المعرض مجموعة من الأيقونات التي تحمل طابع هذا المحترف الحلبي، منها صليب كبير من نتاج يوحنا القدسي في 1737، وإحدى عشرة أيقونة صوّرها كيرللس الدمشقي بين 1770 و 1781، وثلاث ايقونات صوّرها يوسف صيدح الدمشقي بين 1775 و 1780، وأربع ايقونات من توقيع ميخائيل حجار تعود ثلاث منها إلى 1744. مع هذه الأيقونات التي تحمل أسماء مصوّريها، نقع على مجموعة من الأعمال غير الموقّعة تشهد لامتداد شعاع مدرسة حلب في القرن الثامن عشر، أجملها وأمتنها أيقونة تمثل مشهد "الشفاعة"، وفيه يبرز المسيح بدور الديّان وسط مريم العذراء ويوحنا المعمدان.

في القسم الأخير من المعرض، تحضر مدرسة القدس في مجموعة من ثلاث عشرة ايقونة تختزل الأسلوب الشعبي المتبع في القرن التاسع عشر. يغلب على الوجه الطابع الطفولي الفرح الذي يخرج عن النسق النسكي التقليدي الذي التزمه الفن البيزنطي على مرّ العصور. تخلو المساحة الخلفية من أيّ تزويق، ويحدّها إطار بسيط. يقتصر النقش على سلسلة من النجوم تملأ الهالة المحيطة برؤوس القديسين، وتبرز الحلّة الزخرفية من خلال الشتول النباتية المزهرة التي تزيّن بعض عناصر التأليف.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024