"أيام فخر الدين"..العروض الأولى التي فجّرت سجالات الصحافة والطوائف

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/07/07
تحت عنوان "صوت المثابرة والصمود"، نظّمت لجنة مهرجانات بعلبك الدولية حفلة موسيقية بُثّت مباشرة من معبد باخوس، وتضمّنت هذه الحفلة وصلة موسيقية من تأليف الأخوين رحباني تستعيد مجموعة من ألحان مسرحية "أَيام فخر الدين" بتوزيع جديد من توقيع غدي وأُسامة رحباني. 
 
في 19 حزيران/يونيو 1966، أعلن "ملحق النهار" عن "أيام فخر الدين"، ونشر مختارات من فصلي المسرحية، واستهلّ هذا الإعلان بالقول: "في 30 تموز/يوليو تعود فيروز إلى بعلبك عودة كبرى، بعمل مسرحي غنائي استعراضي ضخم سيحتلّ مسرح جوبيتر بكامله، أي ما مساحته حوالي الثلاثة آلاف متر مربع، ويستمرّ عشر ليال". وقبل العرض الأول، كتبت مجلة "الشبكة": "عطر الليل هو الاسم الذي ستحمله فيروز في العمل الفني الجديد الذي سيقدّمه الأخوان رحباني، في الليالي اللبنانية بمهرجانات بعلبك الدولية لهذا العام. وفيروز تعود إلى بعلبك بعد غيبة طالت ثلاث سنوات. وعنوان مهرجان هذا الموسم هو "أيام فخر الدين"، وهو أول عمل فني من نوعه يقدم عليه الأخوان رحباني، لأنّ فيه، إلى جانب العنصر المسرحي والغنائي، عنصراً جديداً هو الملحمة، فهو يروي شعر البطولات التاريخية للأمير اللبناني الكبير".

مع انطلاق هذا المهرجان، هلّل أنسي الحاج، وكتب في ملحق النهار: "في أيام فخر الدين، دخلت فيروز تاريخ لبنان دخول النور في الظلام، فشعشعته وجعلته صحواً رائعاً. ما كان يمكن فخر الدين أن ينال تكريماً أجمل من هذا الصوت، ما كان يمكن تاريخ لبنان أن يسمع أجمل من هذا الصوت. بعد الآن سيقترن اسم فخر الدين بصوت فيروز وسيكون مديناً له، كما سيكون مديناً لفيروز". بالتزامن مع هذه المقالة الاحتفالية، نشر الملحق دراسة أكاديمية من توقيع المؤرخ كمال الصليبي تستند إلى المراجع التاريخية الموثقة، وعنوانها "أصل فخر الدين الكبير غامض". وأثارت هذه الدراسة سجالاً كبيراً، ونشر الملحق رداً من توقيع جوزف نعمه، وآخر من توقيع وديع تلحوق، مع مقدمة تقول: "المقال عن فخر الدين الثاني الكبير الذي كتبه كمال الصليبي لم يرق لكثيرين. وذلك طبيعي. فكل نقض لأمر ثابت شائع وراسخ في الأذهان ينتفض حياله الناس محتجين مستهجنين". في المقابل، كتب محمود سويد في "الأسبوع العربي" تحت عنوان "الرحبانيان وفيروز يكتبون تاريخ لبنان في بعلبك" مقالة انتقد فيها هذه المسرحية، وقال في هذا النقد: "إذا كان تاريخ لبنان لم يُكتب بعد على حقيقته، إذ كتبه المؤرخ السني سنياً، والشيعي شيعياً، والدرزي درزياً، والماروني مارونياً، والروم رومياً، الخ... فإن الأخوين رحباني أضافا كتابة جديدة، رحبانية. كتابة تتحدث عن بطولة اللبنانيين كلاماً، وتعكسها رقصاً، فلم نشهد موقفاً يحتاج إلى بطولة حتى تنفجر الدبكة، وتبتلع كل النخوة والبطولة".

في 7 آب/أغسطس، عاد أنسي الحاج وتطرق في "ملحق النهار" إلى إشكال "محلّي" تعرّضت له هذه المسرحية، واستهل كلامه بالقول: "يؤسفنا أن يتحول بعض الصحف وأقلام كنا نحسبها تحرّرية إلى أدوات لإثارة النعرات الطائفية على حساب عمل فني بكامله ولأسباب نخجل من ذكرها. لقد طلب نقيب المحررين (أي رياض طه) من لجنة مهرجانات بعلبك عدداً معيناً من بطاقات الدعوة لحضور (مسرحية) أيام فخر الدين، فلم تستجب إليه اللجنة، فتحولت أيام فخر الدين فجأة، على صفحات تلك الجرائد، إلى عمل مسخ شوّه تاريخاً وأساء إلى الطائفة الدرزية".

وأضاف أنسي الحاج في الختام: "عمل فنّي عن اللبناني الذي بنى وحدة لبنان رغم الطائفيّة، رافضاً الطائفيّة، متخطّياً إياها، نقابله اليوم، بعد ثلاثة قرون، بالطائفية. خجلت من الغرباء وخجلت من فيروز وخجلت من الأخوين رحباني ومن نصري شمس الدين ومن كل فرقتهم. خجلت من أعمدة بعلبك وهربت في الظلام. خجلت أن أكون صحفياً، وفي لبنان صحافة تنتصر للطائفية على الفن، وتكذب باسم الطائفية على الناس، وتبصق على ضمير الناس وكأنها تبصق على جثة".

في الخلاصة، أثار العرض الأوّل "نزاعاً" سياسياً محلياً لم يعرفه المسرح الرحباني من قبل، وسعى عاصي ومنصور إلى تجاوز هذا "الإشكال" بعد "تحوير" الحوار الذي استاء منه البعض، فتحوّل فيلمون وهبي من "أبو قاسم" (الدرزي) الى "أبو جريس" (المسيحي). وأشارت مجلة "الحوادث" إلى هذا التحوير في خبر قصير، ونصّه: "أُسند لفيلمون وهبي دور أبو قاسم في أيام فخر الدين: وإزاء الاحتجاج على هذا الدور واعتباره ماساً بإحدى الطوائف، استبدلت تذكرة هوية أبو قاسم في الحفلة الثانية وتغير اسمه فأصبح أبو جريس. ويبدو أن استبدال الاسم وإبقاء الدور كما هو لم يلغ الاحتجاج، فأُلغي الدور كله، وخرج فيلمون وهبي من مهرجان بعلبك هذا العام"..

صمدت مسرحية الأخوين رحباني في وجه هذه النكبة، وردد الجمهور الواسع أغانيها وحواراتها على مدى أكثر من نصف قرن، وباتت من الروائع الموسيقية الحية في الوجدان. من المفارقات، وبحسب ما جاء في مقالة محمود سويد، رأى الموسيقار وليد غلمية ان أغاني هذه المسرحية "فيها الكثير من تكرار أنغام سابقة للأخوين رحباني"، "وفي الموسيقى التصويرية الكثير من فاغنر، وفي المقطع الصوتي لأغنية الصيادين الكثير من الفولغا الروسية". على العكس، أبدى محمد عبد الوهاب إعجاباً كبيراً بهذا العمل الموسيقي، وتشهد الوصلة البديعة التي قُدمت في بعلبك مؤخراً لجمال هذه الألحان الخالدة، بعيداً من السجال الذي ما زال دائراً حول فخر الدين الأسطورة والتاريخ.

مع بداية عرض "أيام فخر الدين"، كتب أدونيس في جريدة "لسان الحال" مقالة حول "الأغنية الفيروزية" رأى فيها أن هذه الأغنية "إبداع يوحد بين مبدع كلماتها، ومبدع إيقاعها، ومغنيتها، وسامعها". وأضاف الشاعر: "وللأغنية الفيروزية، فوق ذلك، خصوصية هي من الحضور والأسر، بحيث لا يمكن التعويض عنها وبحيث تبدو الأغنية التي تتشبّه بها، أكثر بعداً عنها من الأغنية لا تشابهها في شيء. هنا، على هذا الصعيد، يكمن دور الأغنية الفيروزية في كونها صوتاً، وكلمة، وإيقاعاً، وهذا ما أكرّره دائما، أعظم حدث في تاريخ الغناء العربي".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024