عندما يشهد الفن على خضوعه

روجيه عوطة

الثلاثاء 2018/01/09
شيئاً فشيئاً، يقترن الفن في وضعه الراهن بوظيفة معينة، وهي أن يكون رجاءً للإدلاء بالشهادة. وشيئاً فشيئاً، تبدو هذه الوظيفة أنها تثقل كاهله حتى تصير قوامه الوحيد التي لا تمده بحضوره، بل على العكس، أي بغيابه، أو بالأحرى بحطامه. من المسرح إلى الفيديو، وبينهما التجهيز والعمل الأدائي، عدا عن الأفلمة، كل هذه الأطرزة، وفي حين تقديمها، تتحول على إثر تلك الوظيفة، إلى وسائط يستخدمها فنانها مباشرةً، أو عبر انتداب غيره، تماماً كما هي الحال مع التمثيل على الخشبة، من أجل أن تدور حول التعبير عما جرى معه، وذلك، لكي ينزل محتواه على مسمع ومرأى متلقيه، ويمضون إلى عيش مفعوله فيهم.

من الممكن القول أن التعبير هو أمر الفن ومقتضى وسائطه، إلا أن التعبير، هنا، محكوم بدور يطغى عليه، ومفاده التواصل. بالتالي، بعدما كان الفن ممارسة تعبيرية، وهذا تعريف لا دقة فيه، يصير أداة تواصلية، غايته أن يعرض لمتلقيه واقعة، سرعان ما يجعلها قضية معرضة للخلاف عليها. تغدو الواقعة قضية، ويغدو التفنن على إثرها بياناً لها، أو كشفاً عنها، وذلك، من أجل إيصالها إلى عدد من المتفرجين عليها، وهؤلاء، من جهتهم، يضحون متابعين لها.

كل هذا، ببساطة، يحيل الفن إلى شيء مختلف عنه، بعيد عنه، وهو النسق الميديوي، الذي، ولما يستوي عليه، يصبح وسيلة من وسائله، وذلك، على الرغم من استدخاله لتقنياته. قد تصح الإشارة إلى مقايضة بين الاثنين، بين هذا النسق وهذا الفن، فالأول يعطي الثاني تقنياته، والثاني يعطي الأول محله، أي مكان حاله، وفي النتيجة، حيويته. إنها مقايضة غير عادلة طبعاً، ذلك، ككل مقايضة بين أي سلطة وأي خاضع لها، بين مَن يريد تعطيل مواجهه، ومَن يهجس بالتجدد، بين مَن يحقق هدفه، ومَن يزعم تحقيقه. فمعلومة تلك المقولات التي يسوق لها فنانون حول إقحامهم الشاشات في أعمالهم، الشاشات، التي، وحين لا يجدون لها مهمة، لا تكون سوى النقالة البصرية للدائر أمامها: الفن يواكب عصره، ينفتح على مجالات أخرى، يتبدل مع جمهوره، وبعبارة واحدة، يعمد إلى تحديث نظامه (up2date). ولكن، وما أن يقدم على ذلك، حتى يفقد كل برامجه، ولا بأس بهذا، ما دام في استطاعته أن يستعيض عنها بـ"المشاريع".

إذاً، وعلى أساس تلك المقايضة المجحفة، يتغير الفن إلى وسيلةٍ، لا غاية لها سوى التواصل مع متلقيه، الذين، ولكي يضحوا متابعين له، يدخلون إليه من بابٍ، جرى رفعه بفعل تحديث نظامه إياه، وهو باب يسمح لهم بالتفاعل معه، مرةً، بحثهم على تأويله، ومرةً، بإشراكهم فيه. فما عاد جمهور الفن متلقٍ فقط، وهذه لطالما كانت شكاية تشير إلى إقفال العمل الفني ونأيه، ما عاد على هذا النحو، بل أصبح جمهوراً متفاعلاً، والانتقال من وضع إلى ثانٍ حصل بعد استقرار الفن على النسق الميديوي، الذي يقوم ببغية حشد ملاحقيه، وعن السعي إلى إلصاقهم به، وذلك، عبر إتاحة "فرصة" الظهور عليه، كمعلقين أقله، قبل أن يتحولوا بذاتهم إلى منتجين له (ذيوع شخصية الإعلامي كيفما اتفق). صار للفن جمهور من المتفاعلين، الذين ما عادوا يرضوا بالتلقي، بل بالاندماج في العمل على اعتقاد منهم بأن هذه هي "فرصتهم" لكي يصيروا فنانين أيضاً (ذيوع شخصية الفنان بلا أعمال). دمقرطة الفن من دمقرطة النسق الميديوي، والاثنان يرتكزان على البغية نفسها: جذب المتابعين، وجذبهم فقط.

في هذا السياق بالتحديد، تنجلي وظيفة الشهادة على أنها من أثر المقايضة المجحفة بين الفن والنسق الميديوي. ففي هذه الأيام، من المرجح الوقوع على فيديو يتطابق مع ريبورتاج تلفزيوني، داخله، شهادة اجتماعية عن الفقر، ومن المرجح الوقوع على مسرحية، على خشبتها، شهادة ذاتية يدلي بها أحدهم عايش حدثاً، وحظي بقصةٍ، وها هو يكتفي بتأديتها... في كل ذلك، الفنان شاهد مباشر أو موارب، ودوره يستلزم منه أن يعرض قضيته للمتابعين، وبفعل بغية حشدهم، يرنو إلى مخاطبتهم، ولنجاح المخاطبة، عليه أن يدفع الثمن: ملأ المساحة بينه وبينهم بخطاب جامع، وفي مطافه الأخير، يستند إلى علاقة قوة مستترة، حيث هو يعترف بما جرى، وهم، لكي لا يكونوا في موقع المعترَف لهم، يختارون أسهل طريق إلى ذلك، أي النكران عبر التباغت باعترافه. الفنان يدلي بشهادته، ومتابعوه يتفاجأون بها، وهكذا، يحقق الفن غاية التواصل مع جمهوره. التواصل؟ الاعتراف المسلي، الاعتراف المنتج لنكران الجمهور في أثناء إعلامه.

وأحياناً، يكون تحقيق الفن غايته تلك كاريكاتورياً، إذ إنه يدفع إلى التساؤل الفوري عن ضرورته، فما الداعي إلى إنتاج عمل للادلاء بشهادة عن واقعة لا تتوقف الوسائل المرئية عن الإنباء عنها بطريقتها؟ ما الداعي إلى الاتكاء على هذه الطريقة؟ ما الداعي إلى الارتكاز على بغيتها؟ ما الداعي إلى أن يكون الفن طريقاً لصناعة نكران جمهوره، نكرانه الذي يؤدي إلى جذبه؟ ما الداعي إلى ذلك كله؟ لا جدوى له سوى أن يشهد الفن على خضوعه، الذي حين لاح في بداية القرن الحالي، كتب كثر عن كونه صار مجرد وسائط. ولكن، حتى هذه الوسائط في راهنها بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة أيضاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024