كيف يدون الشباب السوري تاريخ ثورته

علي سفر

الأحد 2020/08/30
لم تنتصر الثورة، ونيران الحرب ما زالت مستعرة، وعجلة المآسي العامة والخاصة ما برحت تطحن مشاعر وأحاسيس السوريين، الذين يشعرون بأن مصيبتهم باتت أبدية!
لكن كل هذا، لم يمنع هؤلاء وغيرهم من أن يحاولوا مماحكة دوامة الموت، وتجريب التغلب عليها، عبر الكتابة عنها وفيها! 

كانت هناك على الدوام فرضية كتابية/ أدبية تقول: إن الاشتغال الأدبي على الحرب ذي القيمة الكبيرة، يحصل بعد انتهائها! ويستند أصحاب هذه الفرضية إلى عشرات التجارب العالمية الراسخة في الكتابة الأدبية عن الحروب. 

لكن هذا في الحالة السورية الممتدة إلى عقد كامل، يعني أن تتوقف أقلام المبدعين، وألا يكتب أحد عما يجري، بانتظار النهاية، التي صُدم الجميع بأنها لم تأت! 

وفعلياً لم ينتبه أحد إلى ما يقوله أصحاب هذه الفرضية، فكُتب الكثير من الأعمال عما يجري في سوريا، وتوزعت بين الأنواع الأدبية، من الشعر والقصة والرواية والمسرح، مروراً بالأنواع الفنية البصرية التي تجاورت مع اللغة المكتوبة فصنعا معاً فضاءً إبداعياً مهماً!

قد يرى البعض أن قيمة ما جرى صنعه تختلف بين تجربة وأخرى، أو بالأحرى بين كاتب وآخر، أو شاعرٍ وآخر، وهذا التفاوت يحصل في أي مكان وزمان، ولكن ثمة أسئلة إبداعية أهم لم يحاول المتابعون التركيز عليها في سياق تحري ما يجري في الفضاء الإبداعي السوري، من مثل البحث عن تطور الأشكال الإبداعية في ظل الواقع المنفلت، ومدى استثمار المبدعين لفضاءات الحرية النسبية في النهوض بأدواتهم؟! 
وثمة أسئلة نقدية تتجه إلى البحث في قدرة ما اُنتج على التعبير عن الوقائع اليومية للحدث السوري؟! ووفقا لهذا تبدو الحالة السورية مولدة للبحث بالتوازي مع توليدها للنصوص الإبداعية. 

غير أن الاستغراق بعالم الخيال الموازي لوقائع الدمار والموت، لم يلغ سؤالاً بدا راسخاً منذ الأيام الأولى للثورة، حول سرد وتدوين تفاصيلها، لقد وُثّقت الأحداث كما يعرف الجميع عبر كاميرات المواطنين الصحافيين، ونُقلت الأخبار عبر الوكالات الإخبارية والصحف والمواقع الإلكترونية.

لكن بقيت ثغرة في سياق هذا التوثيق، يلاحظها كل من سأل الشباب الذي شارك في ثورة الكرامة عن تجربته! لقد ظهر أن فراغاً كبيراً في هذا السياق سيتحول يوماً بعد يوم إلى ثقب أسود بلا جاذبية، مع فقدان كثيرين من هؤلاء لحيواتهم على الأرض، أو اختفائهم في المعتقلات الأسدية، أو في المصائر المجهولة في سواد تنظيم الدولة/ داعش، أو في سجون التنظيمات المتطرفة وغيرها!
ترميم الفراغ في سرديات الثورة السورية، لا يقوم على الجهود الأدبية والإبداعية، كما لا يستطيع النشاط التوثيقي المرئي أن يغطيه، كما لا يقدر المراسلون الحربيون أن يفعلوا حياله أكثر ما فعلوا في عملهم الإخباري! 

إنه يحتاج لأن يقوم أصحاب التجارب ذاتها بالكتابة عنها! وأن تتضافر أعمال هؤلاء مع أعمال الآخرين في السياق السياسي والإعلامي وغيرهما من السياقات، ليشكلوا معاً (المدونة السورية العامة).

نشاط كثير دبّ في سياق التدوين الشخصي منذ الأيام الأولى للثورة، مروراً بتجارب الاعتقال، بعد التظاهر، وتحولات الفعاليات الثورية من السلمية إلى التسلح، وصولاً إلى النزوح والتهجير واللجوء. لكن قلة قليلة من تجارب هذا التدوين بلغت نضوجها، وتابعت لتصل إلى القراء بوصفها كتباً، أو على الأقل تجارب منشورة ومدققة! 

وربما يعود عدم اهتمام أصحاب التدوينات بما كتبوه إلى غياب من يهتم بها! وهذا احتمال وارد، إذ قليلة هي المنابر التي شجعت هؤلاء، ومن بينها يبرز مركز "بيت المواطن" الذي يشرف عليه الباحث د. حسان عباس، حيث تم إصدار 30 كتيباً لكتاب وشعراء وناشطين شاركوا بشكل أو بآخر في الثورة ضمن سلسلة "شهادات سورية". وأيضاً موقع "الجمهورية" الذي يشرف عليه الكاتب ياسين الحاج صالح، حيث أفسحت أعداد الجمهورية لعدد غير قليل من الناشطين المجال لأن يكتبوا تجاربهم.

انشغال دور النشر العربية بالمسألة السورية ونصوصها تناقص مع مرور الوقت، ولكنها بقيت حاضرة لدى دار (الريس) لصاحبها رياض نجيب الريس، ودار (المتوسط) في إيطاليا للفلسطيني السوري خالد سليمان الناصري، ودار (نون4) للسوري محمود وهب، وأخيراً دار (موزاييك) للشاعر السوري محمد طه العثمان. 

ورغم هذا التناقص حاول كثيرون أن يكتبوا وأن يطبعوا أعمالهم، وكان لهم هذا ولكن لم تصل كتبهم إلى الجمهور كما يجب، فحاولت مجموعة (أبو عبدو) على فيسبوك أن تتلافى هذا الغياب عبر نشر هذه الكتب إلكترونياً، لكن أبرز هذه المحاولات جاءت مع قيام الناشط تامر تركماني بإنشاء مجموعة (أرشيف الثورة السورية) على تطبيق تلغرام، التي تم فيها نشر مئات الكتب عن سوريا، بما فيها كتب المذكرات الشخصية لعدد من الناشطين.

تأمّل محتويات الكتب التي نُشرت حتى الآن يوضح أن بعضها ذهب باتجاه التدوين الأدبي عن التجربة، بمعنى أن يعبّر الكاتب عن نفسه بطريقة أدبية، ويضع ما يكتبه تحت باب الرواية، فشاب أهمية ما كتبه خلطٌ بين عالمي الواقع والخيال، وعلى سبيل المثال نذكر هنا رواية "لهذا أخفينا الموتى" لوائل الزهراوي الصادرة عن دار إتقان للنشر (2020)، ورواية "36 ساعة في خان شيخون" لمحمد عبد الستار طكو(2020).
بينما يتوقف المتابع أمام تجارب مهمة ككتاب "حالات حرجة" للناشط هادي العبد الله الذي صدر هذه السنة عن دار جسور للترجمة والنشر، حيث قام بتسجيل شهادته ليقوم كاتب سمّى نفسه جود بتحريرها. وفعلياً تستحق هذه المحاولة الاهتمام من قبل القارئ، ليس فقط لكون صاحبها من الشخصيات المبرزة ذات المسيرة الغنية في يوميات الثورة، بل لكونها تحاول أن تبني حضورها على صعيد التدوين من خلال الحرفية الجيدة التي ظهرت وفقها، حيث يبرز صوت العبد الله في السرد، فلا يغرق بالأدبية، ولا ينهض أمام القارئ كمادة إخبارية خشنة، ومع تسلسل للأحداث يخلق تشويقاً مهماً للقارئ الذي يعرف هادي على الشاشات، لكنه لا يدري ما حدث هناك في مدينة القصير أو حمص أو إدلب وكفرنبل!

ومن التجارب المبرزة في هذا السياق تجربة الناشط الحلبي محمد جلال (اسم حركي)، الذي أصدر في العام 2017 كتاب يومياته الأول بعنوان "هذه ثورتي" عن دار (نون4)، ثم عاد ليصدر قبل أيام كتاب يومياته الثاني بعنوان "اليوم التالي" عن دار (موزاييك).

بين الكتابين تظهر أهمية تجربة محمد جلال لكونها تتبع أسلوب التدوين الشخصي، حيث الكتابة تعتني بالتفاصيل، وتحاول تذكر ملامحها ووقائعها، من دون ميل إلى إغناء السياق بالشعارات أو بالنزعات الثورية للجو العام. 

ففي الجزء الأول، يذهب المؤلف إلى سرد الأحداث التي جرت معه منذ بداية الثورة، حيث المشاركة بالتظاهر ثم السجن وما تتالى بعد ذلك من تفاصيل، لا تعكس تجربة جلال فحسب، بل تظهر كمحاكاة لحيوات عشرات وربما مئات وآلاف من الشباب السوري، الذين مضت بهم الأحداث في مخاضاتها ونجاحاتها وكوارثها.


الكاتب الذي بقي في سوريا، ولم يخرج منها إلا لفترة وجيزة، قضاها في مدينة قونية التركية، ذهب في الجزء الثاني إلى تدوين تفاصيل الواقع الذي عاشته المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وتداخل معاناة السوريين فيها بين تتالي السيطرات بين فصائل الجيش الحر إلى إسلامية معتدلة إلى جهادية متطرفة، وصولاً إلى الاحتلالات المتعددة للأرض السورية.

وبين الجزئين سيلاحظ القارئ المدقق أن محمد جلال سينتقل في وعيه مثل كل الشباب السوريين، من المساحة الشخصية التي استشعرت أهمية الثورة لجهة طموحاتها وأحلامها وأفكارها الطرية الطازجة، إلى المساحة العامة، حيث سيتغلب الوعي بمصير البلاد على الإحساس بالمطاردة والخوف الذاتي والقلق على مصير العائلة الصغيرة (زوج وزوجة وطفل)، وليتحول نبض العيش إلى تحرٍ نقدي لواقع الثورة منذ البداية وحتى تاريخ نهاية اليوميات التي يكتبها المؤلف.

وبانتظار أن تذهب أقلام الشباب السوري أكثر فأكثر نحو التدوين، وكتابة تاريخ ثورتهم كما عايشوه، تبقى الأيام مفتوحة على مصائر مختلفة، واحتمالات متعددة، ولعل تتالي تجارب التدوين، يمنح هؤلاء القدرة على مواجهة ما جرى وسيجري، فالتاريخ لا يكتبه العسكر وجيوشهم فقط، بل تكتبه وبشكل مضاد الأقلام والذاكرة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024