مصائرنا تُرسم الآن.. نحتفل باليوتوبيا وتخنقنا الديستوبيا

نزار آغري

الأربعاء 2020/04/01
نشر فيروس الكورونا الذعر والعزلة والحيرة والتيه، فضلاً بالطبع عن الموت والمرض، بين الناس في أرجاء الأرض، لكنه هيج، في الوقت نفسه، أشجان المشتغلين بالكلمات. لقد أيقظ حنينهم إلى النصوص التي قاربت أحوال البشر حين يجدون أنفسهم في قبضة مصير مرعب مثل الذي يجاهد الكورونا في رسمه الآن. تلك النصوص تتأرجح بين الإحتفال باليوتوبيا، الحلم، والديستوبيا، الكابوس. 

الأمران معاً من صنع يد الإنسان. فهو، في شهوته للحرية القصوة والمتعة الدائمة يضع نصب عينيه أمنية جميلة ويفبرك الحيل للوصول إليها. لكنه سرعان ما يكتشف أنها، أي تلك الأمنية، هي مصيدة، فيكافح للتخلص منها. 

في العام 1944، أثار أحد أساتذة الأدب الروسي، انتباه جورج أورويل إلى رواية بعنوان "نحن"، للكاتب الروسي يفغيني زامياتين، نشرها العام 1920. هي رواية أنتي ـ طوباوية تصف عالماً خانقاً يتحول فيه الفرد إلى كائن ذليل لا قدرة له على تحديد مصيره.

تجري أحداث الرواية خلال القرن السادس والعشرين، أي في العام 2600. كان الناس قبل قرون عديدة هبوا ركضاً وراء يوتوبيا فاتنة تتمثل في مجتمع سعيد وحر. وها هم الآن وقد صاروا أرقاماً. بيوتهم من زجاج (كتبت الرواية قبل ظهور التلفزيون)، الأمر الذي يجعل مهمة البوليس السياسي، المعروف بإسم "الحراس" سهلة، في مراقبة الشعب.

يرتدي الناس زياً موحداً، ويشار إليهم بأرقامهم، وهم يعتاشون على طعام صناعي مركب، والتسلية الوحيدة التي يتمتعون بها هي السير في صفوف منتظمة على أنغام النشيد الوطني لـ"دولة الفرد".

يسمح لهم في أوقات محددة بإسدال الستائر في مساكنهم الزجاجية. هذه الفرصة هي "ساعة ممارسة الجنس". لا زواج في هذه الدولة. يمكن للمواطن ممارسة الجنس مقابل كوبونات تضم قسائم وردية اللون، ويجب أن يوقع الشريكان على الكوبون حين الانتهاء من العملية الجنسية.

رئيس الدولة يدعى "ولي النعمة". يعيد الشعب بالإجماع انتخابه كل عام. القاعدة الأساسية التي تقوم عليها الدولة هي أن السعادة تناقض الحرية. (لنتذكر على سبيل الدعابة، لكن الدعابة المرعبة، ما كان شبيحة الحكومة السورية يرددونه لمن كانوا يقعون في أيديهم: بدكن حرية؟ هاي هي الحرية، ثم يبدأون التنكيل الفظيع).

وهكذا فإن الحرية التي ركض إليها الناس وضعتهم، بمحض "حريتهم"، في سجن رهيب.
الرواية، بعد أن ترجمت إلى اللغات الأوروبية، أصبحت بمثابة المعطف الذي خرجت منه النصوص اللاحقة التي تصور اليوتوبيات التي تتحول إلى ديستوبيات مرعبة.

حين كتب ألدوس هكسلي روايته الشهيرة "عالم جديد شجاع" العام 1932، اتهمه جورج أورويل بسرقة فكرة رواية زامياتين. نفى هكسلي ذلك بحدة بل أنه أقسم أنه لم يطلع على الرواية الروسية قط. لكن الطريف أن أورويل شرب من الكأس نفسه. فقد اتهمه العديد من النقاد بأنه، هو وليس هكسلي، من سرق رواية زامياتين. المؤرخ إسحق دويتشر كتب أن أورويل سرق كل شيء، الفكرة والمناخ العام والشخصيات والحبكة، من زامياتين.



في العام 1937، كتبت الروائية والفيلسوفة الروسية آين راند، التي هربت إلى الولايات المتحدة العام 1926، أي في بداية تسلط الطغيان الستاليني، رواية "النشيد الوطني" ونشرتها في المملكة المتحدة العام 1938. تجري أحداث الرواية في مستقبل بعيد غير محدد بعدما وصل البشر إلى نسخة جديدة من "عصر الظلام". التكنولوجيا تسيطر على كل شيء وفقد الإنسان كامل شخصيته. لم تعد له شخصية فردية. إنه رقم ضمن قطيع من الأرقام.

يتمرد شاب يدعى 7 ـ 2521 ويقوم بإجراء أبحاث سرية. لكنهم يكتشفون أمره فيهرب إلى الغابات مصطحباًُ معه صديقته. هناك يصمم الإثنان على البدء بإنشاء مجتمع جديد قائم على الفردية ويخططان لتهريب الناس، الأرقام، من الدولة الشمولية التي هربا منها.

كتب أرثر كوستلر رواية "ظلام في منتصف النهار"، العام 1940 وتجري أحداثها داخل معتقل. هو نفسه كان اعتُقل العام 1937 على أيدي الفاشيين في إسبانيا حين كان مراسلاً حربياً لصحيفة نيوز كرونيكل. وهو كان عضواً في الحزب الشيوعي الألماني وفي الكومنتيرن. وضعه الفاشيون في سجن انفرادي 49 يوماً. كانوا قرروا إعدامه. في تلك الأيام الطويلة كان كل يوم جديد بمثابة انتظار جديد للموت. تذوق كوستلر الموت في كل لحظة.

أثرت رواية كوستلر في أورويل لدرجة أنه أراد الدخول إلى السجن كي يعيش التجربة بنفسه. وهو عمد بالفعل إلى افتعال مشكلة (شرب الكحول بشكل مفرط إلى حد السكر) فاعتقله البوليس. لكنهم سرعان ما أطلقوا سراحه، يا للخيبة. الشيء الوحيد الذي أمدته به هذه التجربة الصغيرة من أجل روايته هو الرائحة النتنة لدورة المياه.

كان كوستلر حاول أن يجد تفسيراً لمحاكمات موسكو. حاول أن يجد جواباً على السؤال الذي شغله وشغل الآخرين: لماذا وقّع ذلك العدد الكبير من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي على وثيقة الاعتراف بالجرائم المنسوبة إليهم، وبالتالي تأكيد تعرضهم للإعدام؟
جواب كوستلر هو: إما أنهم كانوا مذنبين بالفعل (وهذا مستحيل)، أو أن التعذيب وتهديد -عائلاتهم قد حطمهم (وهذا غير مقنع). الإستناج الذي توصل إليه هو التالي: السنوات الطويلة لإخلاصهم الكلي للحزب قد وضع على أذهانهم وأوراحهم غشاوة تمنعهم من التمسك بالحقيقة الموضوعية. إذا كان الحزب هو الذي يقول أنهم مذنبون فلا بد أنهم مذنبون بالفعل.
في رواية جورج أورويل 1984 يصرخ بارسون: بالطبع أنا مذنب. هل تعتقد أن الحزب يمكن أن يعتقل شخصاً بريئاً؟

في العام 1953 كتب راي برادبوري روايته الشهيرة "فهرناهايت 451"، وفيها وضع تصوره عن نظام ديكتاتوري يصدر قراراً بتحريم الكتب ويحظر التعامل بالكلمات المكتوبة. يعاقب كل من يمتلك الكتب بالسجن وتحرق كتبه علانية في الساحات العامة. وكما في رواية أورويل، حيث ينقلب الشيء إلى نقيضه (الحقيقة تصير كذباً والحرية تصبح قمعاً والحب يتحول إلى كراهية)، تقوم فرقة إطفاء، التي تكمن وظيفتها في إطفاء الحرائق، بإضرام النار في الكتب.

يقول رئيس الفرقة: نريد إشغال الناس بمسابقات الأغاني وحشو أدمغتهم بمعلومات لا قيمة لها حتى يشعروا بأنهم بارعون وراضون عن أنفسهم بينما هم في حقيقة الأمر لا يفكرون في شيء ذي قيمة.

تنبأ برادبوري بما سيؤول اليه مستقبل الإنسان عندما تسقط المعرفة وتهيمن سلطة الجهل ويتحكم التلفزيون في حياة البشر محولاً الجموع إلى قطعان مدجنة، تلتهم برامج المنوعات والأغاني والمسلسلات، وتدمن عليها فلا تعود معنية بما يحدث، ولا تأبه بأي شأن من شؤون الحياة والمخاطر التي تفترس المجتمع "ماذا كان سيقول لو أنه عاش الآن ورآى الهيمنة المطلقة لوسائل التواصل الإجتماعي: الفيسبوك والتويتر واليوتيوب..الخ؟".

في أوسانيا، في رواية جورج أورويل، لا قوانين، بل جرائم فقط، ولا فصل بين الفكر والعمل. لهذا لا يجد وينستون سبباً يدعوه لئلا يعترف بأنه قام بالتجسس والتخريب والإختلاس والانحراف الجنسي. هو متيقن من أنه مذنب بالفعل، رغم أنه لم يرتكب أي شيء على أرض الواقع.

لم يكن كافياً لستالين أن ينهي حياة خصومه برصاصة في مؤخرة الرأس. كان هاجسه، أولاً وقبل كل شيء، أن يركعهم وينتزع منهم الإعتراف بأنهم مذنبون والصراخ بأنهم نادمون وأن يسجل بالتالي انتصاره عليهم وعلى الواقع. انتصار إرادته الذاتية على الحقيقة الموضوعية.
قال المسؤول السوفياتي غيورغي بياتاكوف، الذي أُعدم العام 1973، أن البلشفي الحقيقي مستعد لأن يؤمن بأن الأسود أبيض والأبيض أسود إذا قرر الحزب ذلك. في الرواية تقوم إبنة بارسون بالوشاية بأبيها لدى بوليس الفكر. هذه الفكرة استمدها أورويل من الواقعة الفعلية التي حدثت في روسيا العام 1932 حين قام ولد يبلغ الثالثة عشرة من عمره بإبلاغ البوليس السري لستالين عن والده. وقد وصفته الدعاية السوفياتية بالولد البطل.

الغاية النهائية للحزب هي الإستحواذ على ذهن وفكر وعمل العنصر الحزبي وصهره كلياً، مثلما يصهر المعدن، داخل الجهز الحزبي.

لا يهم إن كان الأخ الأكبر يراقبنا بالفعل أم لا، وإن كان البوليس السري يتعقبنا، المهم أن نقتنع نحن، في أعماقنا، بأن الأمر على هذه النحو. أقوى الأكاذيب هي تلك التي نتمسك بها بأنفسنا ولا نريد التخلي عنها. لم تكن تشغل بال أورويل شخصية هتلر أو ستالين بل السؤال: لماذا يتبعهم هذا القدر الهائل من الناس؟ العجز عن فهم ما يجري على أرض الواقع ورؤية الأشياء بوضوح، بعيداً من عدسة الحزب أو الأخ الأكبر، يسهل إمكانية تعلق الناس بأفكار معتوهة.
"أي تصور عن العالم خال من الطوبى لا يستحق أن ينظر إليه بجدية".

هكذا كتب أوسكار وايلد في مقال بعنوان "روح الإنسان في ظل الإشتراكية". قال إن التطور البشري ممكن في تحقيق الطوبى.

رأى جورج أورويل أن وايلد يبالغ في تفاؤله، ذلك أن الحقيقة العيانية تقول أنه لا طوباويات بريئة في واقع الأمر. جميل أن يتعلق المرء بالأمل ويسعى في أثر الأحلام، لكن أي محاولة لتحقيق طوبى نهائية محكوم عليها ليس فقط بالفشل بل بالكارثة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024