سماح أبو المنى... سِفر الخروج من المشيَخة إلى الأكورديون

حسن الساحلي

الخميس 2019/06/13
يعتبر سماح أبي المنى، عازف الأكورديون والمغني صاحب الصوت الجبلي، من أوائل "موسيقيي الشارع" في بيروت. أمضى أكثر من عام، يعزف بشكل دوري في شارع الحمرا، مفتتحاً بذلك ممارسة أصبح وجودها عادياً اليوم في المدينة. أولى تجاربه الجدية كانت في العام 2012 مع فرقة "معنا" (مع سليمان زيدان) التي عزف معها لسنوات (في البداية على آلة "الميلوديكا" ثم لاحقاً على الأكورديون)، وتعرف بفضلها إلى زياد الأحمدية، العازف والمؤلف الموسيقي الذي سيمهد له الطريق للمشاركة في عرض "هشك بشك شو" (إخراج هشام جابر وتوزيع الأحمدية) في "مترو المدينة" عازفاً ومغنياً مع الكورال.

مع نجاح "هشك بشك"، استمر أبي المنى مع "مترو"، من دون أن تبتعد شخصيته كثيراً عن تلك التي أداها في عرضه الأول معهم، وأصبح منذ ذلك الحين، أحد "أركان" المشهدية التي يقدمها المكان على المسرح. بدأ الغناء منفرداً العام الماضي، وعرضه الأول تشكل من أعمال للمغني والملحن فيلمون وهبي، أداها بشكل مسرحي، ثم أعاد التجربة مرة أخرى، لكن هذه المرة مع المغني سامي الصيداوي، أحد أبرز أسماء المشهد اللبناني خلال الأربعينات والخمسينات.

بعد الحلقة الأولى مع ساندي شمعون ضمن سلسلة شهادات لـ"المدن" مع فناني "مترو المدينة"، هنا شهادة أبي المنى، والتي تستند إلى مقابلة طويلة معه، وأعاد كاتب هذه السطور صياغتها بطريقته الخاصة، مع إضافات، ليصبح السرد أكثر اتساقاً.

 


"بدأت القصة عندما طلب أحدهم من صديق لي الغناء في احتفال للحزب الإشتراكي. كنت شيخاً مراهقاً يفترض به الإلتزام بسلوكيات معينة، لا تمس بالمقام الذي توارثته عائلتي أبّاً عن جَدّ. وافق أبي على مضض، وقد شفعت لي طبيعة الحدث السياسية وغير الترفيهية. في الوقت نفسه، كنت أتوق للعزف أمام الجمهور، وأعرف أنها فرصة لن تتكرر بسهولة. عملنا يومها على مجموعة أغان من كلمات صديقي، وتلحيني، ولم نصدق عندما أتوا بكل ما طلبناه من معدات صوت وموسيقى، تدربنا عليها لأسابيع في كاراج منزلي. طبعأً لم يدفعوا لنا شيئاً، إلا أننا تلقينا عروضاً للعزف في حفلات زفاف، وقد أمضينا صيف ذلك العام، متنقلين من قرية إلى أخرى في الجبل. كان شكلي سوريالياً بالنسبة إلى تلك المناسبات، ولذلك كنت أحاول قدر الامكان اخفاء شروالي تحت الأورغ، وارتداء قبعة كي لا تظهر القلنسوة التي أجبر على ارتدائها على رأسي.

يومها كنت في السابعة عشرة من عمري، وأستعدّ لإنهاء دراستي الثانوية. كرهت الدرس كثيراً، كما أني كنت مشتتاً ومغترباً عن نفسي ومحيطي. الناس في بيروت رأتني مجرد شروال بقدمين، أما في القرية فكبّلتني صورة رجل الدين التي منعتني من العيش مثل أترابي في المدرسة. لم يكن هناك سوى الأورغ والموسيقى لأهرب من الواقع. أضع السماعات على أذنيّ وأغرق لساعات في العزف واختراع الأغاني. في داخلي، كنت تواقاً للدخول إلى هذا العالم، وأغتنم الفرصة لتعلم أي جديد والتعرف على أشخاص يعملون في المجال.

سبَّبت مشاركتي في الغناء في الأعراس، لأهلي، الكثير من المشاكل، كما أن ظهوري المتكرر في القرية، وأنا أحمل الآلات الموسيقية في السيارة مع أصدقائي، دفع بعض الأشخاص إلى قطع العلاقة بعائلتي. أهلي ليسوا متزمتين دينياً، وأبي يحب العود ويدندن عليه من وقت لآخر، وبفضله تعلمت بعض المقامات. كان يتسلى مع أصدقائه بما أعزفه وأسجّله من إيقاعات فوق بعضها على الأورغ، ولم يكن عنده مشكلة عندما وصلت الأمور إلى أشعار الصوفيين و"المشوقات" التي تُجوَّد في الجلسات الدينية المغلقة (بلا نغم).

لكن، بشكل عام، أجواء المنزل كانت رصينة. أحبَّ أهلي الغناء الجبلي، وجوقات الزجل التي تُعرف منطقتنا بها. بالنسبة إليهم، وديع الصافي هو سقف الموسيقى وأفضل مَن غنّى على الإطلاق. يمكن أيضاً أن تسمع من وقت إلى آخر أغنية لفيروز أو أم كلثوم، وقد مرّ أهلي أيضاً بمرحلة الأغاني النضالية المرتبطة بفترة كمال جنبلاط، من مارسيل خليفة إلى أحمد قعبور وغيرهما. لكن الموضوع لم يتخطَّ ذلك.


كنتُ في العاشرة من عمري عندما انتبه أبي أني أقضي وقتاً أكثر من اللازم عازفاً على الأورغ. أخبرني أن الموسيقى جميلة، لكن من الممكن أن تصبح شياً آخر غير مستحب. لهذا السبب لم يشتر لي "أورغ" أفضل من الذي كان عندي، لكني بعد سنوات قليلة قررت العمل خلال الصيف، لأتمكن من شراء أورغ جديد، وبعد سنتين أقنعت أصدقائي بالدخول في جمعية إدخار، يدفع كل واحد فيها مبلغاً شهرياً، لأتمكن من شراء أورغ ثمنه 2000 دولار، مع أني كنت قد أخبرت أهلي أن الهدف منها هو جمع المال للجامعة.

من أساليب تمردي الأخرى على الواقع الذي كنت أعيشه، اختياري العمل كمندوب لبيع المكانس الكهربائية، لأستطيع ارتداء الجينز، ولتكون لي فرصة النزول إلى بيروت للقاء فتاة من البلدة كنت أحبها. صرتُ أحمل المكنسة من القرية، وأنزل يومياً إلى الطيونة حيث ألتقي بها قرب جامعتها. لم أكن أجرؤ على رؤيتها في الجبل، بما أن الشيخ لا يستطيع أن يحب مثل غيره، ويجب عليه اتباع طرق أكثر تقليدية في التواصل (عبر الأهل).

ازدادت مشاركاتي في الحفلات، وبدأت أغيب عن الصفوف الدينية. لم أعد قادراً على الكذب أكثر، ولم يكن هناك مهرب من أن "أنكث العهد" كما يقولون عندنا، متخلياً عن هذا الموروث الديني الذي تناقلته أجيال قبلي. خربت العلاقة مع أهلي وابتعدت لفترة عن المنزل. لكني أعتقد أنهم بعد فترة خافوا أن يخسروني. أفاجأ اليوم، عندما أتذكر كيف تغيروا معي بتلك السرعة. ربما لعب ظهوري مرات عديدة في التلفزيون، وأنا أعزف الأكورديون خلال المرحلة التي كنت فيها أعزف في شارع الحمرا، دوراً في ذلك، خصوصاً أن الناس أنفسهم الذين كانت تخاف أمي من كلامهم، كانوا يخبرونها أنهم شاهدوني في نشرة الأخبار.

كما أن سفري إلى الخليج، وانا لا أزال في التاسعة عشرة مع فرقة زجل، غيّرت الصورة التي في ذهنهم عما أفعل. تعرف أن هذه الفرق تحظى باحترام في الجبل، وتعطي صورة جيدة عن الوحدة الوطنية بما أنها تتألف في العادة من مسيحي وشيعي ودرزي. العمل معها كان مقبولاً بالنسبة إلى أهلي، كما أن هناك عاملاً آخر ساعد، وهو أنهم وجدوا شيئاً يقولونه للناس عندما يسألونهم عني، فأنا هنا لم أعد جزءاً من فئة الفنانين فقط، بل من أولئك الذين يذهبون للخليج ويعودون بالمال!

تسجلت في الجامعة الأنطونية لدراسة الموسيقى، لكي أظهر لأهلي أني جادّ في اختياري. ومع أني رسبت في الترمينال (الثانوية العامة) قررت الإستمرار من دون أن أعلمهم بذلك. قلت سأترك عندما يعرفون، فهدفي كان تعلم الموسيقى، لا الحصول على شهادة. لم يكن خيار الكونسرفاتوار وارداً بالنسبة إليّ، لأني نفرت من جو القوالب الجاهزة ومن سلوك العاملين عندما زرته في إحدى المرات من دون علم أهلي. كنت لا أزال أرتدي ثياب الشيخ يومها، واشعروني بأني غريب، وكأنه لا يفترض بي أن أكون هناك.

أما في "الأنطونية" فكان وضعي جيداً في صفوف الموسيقى الشرقية، شعرت بالإنتماء وكنت أتعلم بسرعة. لكن عندما نأتي لصفوف الموسيقى الغربية والكلاسيكية، كنت أشعر بالإقصاء والغربة. السبب هو عدم معرفتي بالفرنسية، وعدم مروري بالكونسرفاتوار مثل زملائي في الصف. كنت أعزف على السمع فقط ولا أعرف قراءة النوتة. عندما كنت أطلب من المعلمة توضيح فكرة لم أفهمها، كانت تبدي امتعاضها وترفض أحياناً بحجة أن عليّ تعلم الفرنسية. تريد مني أن أتعلم لغة في شهر واحد! كرهت الثقة الطافحة التي كانت تمتلكها وطريقة كلامها معي. وصلت الأمور إلى حد لم أعد أحتمله إلى أن غضبتُ في إحدى المرات وخرجت من الصف ولم أعد.

بعد فترة من مغادرتي الجامعة، تعرفت بالصدفة على موسيقي اسمه سليمان زيدان يعيش قريباً منا في الجبل. كنت عائداً من بيروت عندما رأيته في الطريق، ينتظر مَن يقله وهو يحمل عوده، فأخذته في طريقي. كان عازفاً ماهراً ومؤلفاً موسيقياً وأصبحنا بسرعة أصدقاء، رغم أنه أكبر مني بعشر سنوات. بفضله دخلت إلى عالم الموسيقى بطريقة أكثر جدية، وتعرفت على الكثير من الناس في بيروت. الإيجابي فيه أيضاً أنه كان من بيئتي نفسها، ويفهم ما كنت أمرّ به من مشاعر ذنب وتشكيك في خياراتي بخصوص أهلي.


كانت بيروت مدينة غريبة جداً بالنسبة إليّ، وأجواء السهر والموسيقى بدت مخيفة من بعيد. الأمكنة الوحيدة التي كنت أشعر فيها بالألفة هي متاجر الإسطوانات والآلات الموسيقية. لكن بعد توطد علاقتي بسليمان، صرت أسهر معه في "زيكو هاوس"، ولعب توافد السوريين على بيروت دوراً في اندماجي بسرعة وإيجاد جو مريح. كنت مثلهم بلا منزل، وفي مكان لا أعرف فيه أحداً، كما أنهم موسيقيون بارعون في العزف على الآلات الشرقية، وليست لديهم مشكلة مع لهجة القاف كما هي الحال مع اللبنانيين. صرنا نسهر يومياً حتى الصباح، وبدأت تتشكل شلة من الأصدقاء.

شجعت سليمان على إحياء فرقته الموسيقية التي كانت ناشطة سابقاً، وبدأنا نتدرب على أغانيه في استديو في الحمرا. كان معنا كاخون وترومبيت وغيتار، بالإضافة إلى العود مع سليمان، وأنا على الميلوديكا. كنت أحفظ الأغاني "بصم"، بما أني لا أعرف قراءة النوتة، وصرت أتمرن لوقت طويل حتى أتقنها. كنت لا أزال أعزف على الأورغ حتى تلك اللحظة، لكن سليمان وجده غير مناسب لنوعية أغانيه الهادئة نسبياً، وبالنسبة إليه صوته اقرب إلى الموسيقى الشعبية. لذلك بدأت البحث عن بديل إلى أن وجدت في متجر عبدلله شاهين آلة إسمها "الميلوديكا" تعمل على النفخ، قريبة من الأورغ وصوتها مثل اللعبة.

عزفت عليها في عدد من الحفلات، ومع أنها أدت المهمة، إلا أننا كنا نشعر أن النتيجة يمكن أن تكون أفضل. بعد فترة، خطَر لسليمان أن الأكورديون يمكن أن يكون خياراً أفضل من "آلتنا العجيبة". عدنا للبحث مجدداً، زرت متاجر عديدة لكني لم أجد شيئاً. كأن الأكورديون شبه منقرض، وكل ما استطعت إيجاده كان أقرب للأنتيكا وبسعر خيالي.

بعد أسبوعين أو ثلاثة، وخلال زيارة لي إلى صوفر، ناداني صاحب بسطة خُضروات وسألني إن كنت ابن الشيخ هيثم الذي يشتغل في الموسيقى. قال لي إنه يريد أن يريني غرَضاً، وهو شنطة كبيرة في داخلها أوكورديون في غاية الجمال. لا أحد يعرف من أين وصل إلى يده، وهو آخر من تتوقع أن تجد آلة موسيقية أصلاً في منزله. شيء مثل الكذب. كانت الآلة في حالة جيدة مع أنها قديمة. أخبرني أنها موجودة في منزله منذ عقود، ولا يعرف ماذا يفعل بها. في النهاية بادلتها بجهاز لابتوب قديم أعطاه لابنه وتيّسرت الأمور. 

كانت حفلتنا بعد شهر. تحديتُ نفسي وصرتُ أتدرب ليلاً ونهاراً كي أكون جاهزاً للعزف في الموعد المحدد. كان عليّ أن أكتشف الآلة، وأتعلم العزف على الأغاني المطلوبة في الوقت نفسه. بعد الحفلة تلقينا ردود أفعال إيجابية، وبدا فعلاً أن الآلة منقرضة، وهناك تعطش لسماع صوتها. بدأ الناس يسألوني أين تعلمت العزف عليها، ومن أين اشتريتها، وتعاملوا معي كأني من المحترفين في العزف!

ساعدني الأكورديون على تشكيل هويتي المنفصلة، فأنا رغم خروجي من الجو الديني، لم أكن قد وجدت مكاني الخاص. أعطاني ثقة في النفس في مجتمع فيه الكثير من الأجانب والأشخاص الذين يتحدثون طوال الوقت عن سَفراتهم ومغامراتهم ويستعرضون اللغات التي يعرفونها. لم يكن لدي شيء في المقابل. ماذا سأخبرهم؟ عن الشروال وجوقة الزجل؟ صرت أعزف الأكورديون لأملأ هذا الفراغ وبدا كأنه مُنقذي، أنا ابن التاسعة عشرة، المولود من جديد في مدينة لم أكن أعرفها...".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024