بول طبر عن الهجرة والطاقة التغييرية: إلتفاتة أنثروبولوجية

المدن - ثقافة

الإثنين 2020/07/27
تجربة الهجرة أعادت تشكيل نظرتي الذاتية الى لبنان، وبدلت من أحاسيسي تجاهه. لبنان قبل الهجرة اصبح غير ما هو عليه عند عودتي اليه. وانا هنا لا أقصد ان البلد تغيّر، كما في حالتي انا، مع مرور السنين التي كنت خلالها في استراليا. فهذا أمر طبيعي ومنطقي. ما اقصده بقولي هذا، ان نظرتي إليه قد تغيرت كثيراً. فمع مغادرتي للبنان بشيء من الغضب الناتج عن تقلص فرص العيش الكريم فيه، بدأت نظرتي إلى لبنان بالتحول مع مرور الوقت على وجودي في أستراليا. وإذا بلبنان الذي أنتمي إليه الآن لم يعد فقط البيت الذي كنت أسكن فيه في محلة القبة، ولا مدرسة الآباء البيض التي تعلمت فيها، ولا الحي الشرقي في زغرتا، حيث يسكن جدي وجدتي ومختلف أقاربي، ولا الأصدقاء والجيران والدكاكين وفرن الحطب الذي كنت أشتري منه الخبز الطازج، وأشوي "صينية الكبة" نزولاً عند طلب الوالدة. بدأ لبنان وأنِا في سيدني في التحول إلى بلد بأكمله، وفجأة أصبحت كل منطقة فيه، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى شواطئ البحر المتوسط، تعني لي الكثير وأشعر بالإنتماء إليها بالقوة نفسها. وأتساءل الآن، هل كان لإنتمائي السياسي لمشروع بناء نظام إشتراكي في لبنان وقتئذٍ أية علاقة بهذا التحول؟ ربما، لكن التحول الذي أتكلم عنه هو أبعد من ما يمكن أن تحدثه أي ايديولوجيا سياسية. كان (ولا يزال) تحولاً على المستوى الوجداني والشعوري الحميمي جداً. على سبيل التوضيح لما أعني بذلك، كنت كلما اشتبهت بأحد ما بأنه من أصول لبنانية، أو كلما قابلت شخصاً في السوق أو في أي مكان عام قادماً من لبنان، كنت أجد نفسي مندفعاً لأبني معه علاقة، وأبدي كامل الإستعداد لمساندته والتقرب منه، بغض النظر عن المكان الذي يتحدر منه في لبنان، أو الطائفة التي ينتمي إليها. هكذا نسجت خلال وجودي في سيدني علاقات مع أشخاص من مختلف المناطق اللبنانية، كان يتعذر علي أن أنسجها لو بقيت في لبنان. هذا الشعور والإستعداد الفوري للتماهي والتكافل مع كل مهاجر من لبنان، بدأت أختبره بعد قدومي إلى أستراليا. بالمقابل، لا أقول أن هذا الشعور لم أحسه خلال وجودي في لبنان قبل هجرتي إلى أستراليا، لكنني كنت أشعر به تجاه المحيط الضيق الذي كنت أعيش فيه، ولم يتعدَّ دائرة الأشخاص المحيطين بي، أكانوا من الأهل والأقارب، أو الأصدقاء. في سيدني، لم يعد وطني متجسداً بالقبة وطرابلس وزغرتا، وأقاربي وأصحابي، بل كبر وتوسّع ليشْمل كامل لبنان وأي فرد من أبنائه. ومع عودتي المتكررة إلى لبنان، وجدت نفسي مندفعاً على الدوام لزيارة جميع مناطقه والتعرف على أهلها، ولو بصورة سريعة وسطحية، دون أدنى شك. وهذا أمر لا تجده مألوفاً لدى "اللبنانيين" الذين لم يغادروا أراضيه.


وأضيف أيضاً، قبل هجرتي من لبنان، كنت من الراغبين بحماس في الإستماع إلى الأغاني الفرنسية والإنكليزية (أزنفور، ميشال بيكو، ميراي ماتيو، البيتلز إلخ.)، ونادراً ما كنت أتقصد الإستماع إلى الأغاني العربية. ومنذ قدومي إلى أستراليا، بدأت "الآية تنقلب"، فوجدت نفسي انجذب تدريجياً للإستماع إلى المغنيين اللبنانيين (والعرب)، لا سيما أغاني فيروز ووديع الصافي ونصري شمس الدين وزكي ناصيف... والملفت أكثر في هذا التحول، كانت الطريقة التي كنت أتذوق فيها تلك الأغاني والألحان، والأحاسيس التي كانت تثيرها في داخلي وفي مخيلتي. أصبحت للمرة الأولى في حياتي، أصغي جيداً إلى اللحن والتوزيع الموسيقي والكلمات إلى درجة "السكن" في داخلها، متمعِّناً بالصور الشعرية واللحنية لتلك الأغاني، ومنجذباً بالصور والمشاعر والأفكار التي يُطلق لها العنان في مخيلتي. وبدأت أدرك أن الموسيقى هي لغة مميزة تعتمد على الصوت خارج الكلام المستخدم للتواصل بين الناس، ومستوحاة من أحاسيس الناس (كل الناس) والأصوات (جميع الأصوات) التي يعبرون بها عن انفعالاتهم و "مواقفهم" تجاه الحياة والطبيعة. وتعمقت هذه التجربة في التعاطي والتفاعل مع الأغاني والموسيقى المذكورين أعلاه، مع التعرف على الأغنية الملتزمة، وعلى رأسها أعمال مرسال خليفة وزياد الرحباني. هكذا أمسى استماعي إلى الأغاني والموسيقى للفنانين اللبنانيين "جسراً" للعبور إلى الوطن بكامل أجزائه، وللتعاطف والتواصل مع كل أبنائه.

وعكس ما يقال، الهجرة من لبنان (في حالتي، منذ 1971) لا تؤدي بالضرورة إلى "هبوط" درجة الإنتماء إليه وصولاً إلى "الإضمحلال" التام. فهي أولاً، قد تعيد تشكيل هذا الإنتماء عند البعض، ليتجاوز الأمكنة التي تتواجد فيها العائلة والأصدقاء والحي والطائفة (على أهميتها في سياقات مختلفة)، ويتسع للوطن بكل أجزائه. وفي السياق نفسه، تتكفل الهجرة بتحويل نظرة المهاجر (أو البعض منهم) إلى "اللبنانيين" بصفتهم أبناء "عيل" ومناطق وطوائف، وتعريفهم أساساً بأنهم مواطنون لبنانيون. هذا أمر، لم تلحظه النظريات التي تتناول ظاهرة بناء الأوطان والمواطنين. فكان التركيز دائماً عند أصحاب هذه النظريات على السياقات الداخلية لصناعة الوطن والمواطن. وأضاف بعض الباحثين كلاماً على الوطنية أو القومية "العابرة للحدود الوطنية". إلا أنه لم يتطرق أحد منهم، من زاوية أنثروبولوجية، إلى دور الهجرة والإقتلاع في صياغة الهوية الوطنية المتخيَّلة والواقعية على المستوى الشعوري والحميمي للفرد. أختم بالقول مجدداً، أن الهجرة والمهاجرين طاقة تغييرية هائلة، إذا تم تثميرها بشكل صحيح.

(*) مدونة نشرها الكاتب بول طبر في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024