ديستان ونيكسون وكارتر: الخلود مع "الريّس"

محمد حجيري

الجمعة 2020/12/04
لوهلة، ظننتُ أن الرئيس الفرنسي الأسبق، فاليري جيسكار ديستان، قد رحل منذ زمن. هو مثل كثيرين، كأنهم امضوا سنواتهم الأخيرة في سبات عميق، ربما هذه هي لعبة السياسة في فرنسا، تجعل اقطابها يتقاعدون بالفعل حين تنتهي مهمتهم، على عكس الكثير من بلدان الاستبداد التي يحكمها الزعماء حتى وهُم في قبورهم...


غاب مسيو ديستان، اختفت أخباره بالنسبة إلى أبناء جيلي، وما بقي على هامش سيرته بالنسبة للجمهور العربي عموماً والمصري تحديداً، تلك القصيدة التي كتبها أحمد فؤاد نجم وغناها الشيخ إمام ساخرَين من زيارة ديستان إلى مصر في عهد محمد أنور السادات. كأن القصيدة خلّدت الرئيس الفرنسي، لكن بشكل سلبي او هجائي: "فاليري جيسكار ديستان والست بتاعه كمان، حيجيب الديب من ديله، ويشبّع كل جعان"،..."التلفزيون ح يلوّن، والجمعيات تتكوّن، والعربيّات ح تموّن، بدل البنزين بارفان".

كتب "الفاجومي"، كما يُلقّب نجم، عن زيارة ديستان لمصر في 16 ديسمبر 1975، أي منذ 45 عاماً، وقد اهتمت الحكومة المصرية حينها بتلك الزيارة، واعتبرت أنها ستغير شكل مصر اقتصادياً (ربما مثل مبادرة ماكرون في لبنان)، و"يختفي الفقر والفقراء، وتنشط الحركة السياحية والتبادل الطلابي"، بحسب تقرير جريدة "اليوم السابع"، و"كانت مشاهد الاستقبال حافلة للرئيس الفرنسي، والصور التي تدفقت من القاهرة لأنحاء العالم، جاءت معبّرة عن بداية عصر أخوة وتعاون السادات وديستان. هناك من انتظر حتى يتلاشى ضباب دفء العلاقات السياسية، انتظر وهو يحدق في العتمة لعل فجر الغد يأتي مع عبق العطر الفرنسي". وردَّ نجم بسخرية على أحلام المصريين المبالغ فيها بأثر من زيارة ديستان وزوجته إلى مصر، أحلام الانفتاح على الاقتصاد الغربي (الليبرالي). ولم تمر أيام على انتشار القصيدة بصوت الشيخ إمام، حتى وجد نجم نفسه يساق إلى السجن، فجر الخميس 2 يناير 1975، هو وزوجته الكاتبة صافيناز كاظم وابنته نوارة ـ كان عمرها آنذاك 14 شهرًا ـ لينتقل بعد ساعات إلى معتقل القلعة، وذلك بسبب القصيدة، التي يقول نجم إنها "كانت بمثابة المسودة الأولى لقصيدة "بيان هام"، التي حوكمتُ بسببها أمام المحكمة العسكرية المركزية، فقد قدّمت فيها صورة السادات، رغم أني لم أذكُر اسمه في القصيدة مباشرة، إلا أنني رسمته في حركاته وملامحه، ورأيته يتكلّم كثيراً ويكذب كثيراً. قلتُ: "هنا شقلبان/ محطة إذاعة حلاوة زمان/ لأن المخبي ظهر واستبان/ وكل المسائل بدت للعيان/ وطلعت حكاوي/ ونزلت كمان/ عن التهريبة/ وعن كيت وكان/ وعن محسوبية/ وعن ألعوبان/ ظهر في المدينة/ كأنه طوفان/ وغرَّق مراكب/ وسوّح غيطان وبعض المراكب/ ح تغرق كمان/ وأزمة مساكن/ وأزمة أمان/ وعالم بياكل/ في عالم جعان/ وريحة مؤامرة/ في جو المكان/ مخطط خيانة/ مع الأميركان/ لدبح العشيرة وحرق الجيران/ وفيه ناس بترغي/ ولازم بيان".

لا شك في أن بعض الأغنيات الشعبية والسياسية، حتى التافهة منها، أحياناً يبقى صداها الشعبوي في الوجدان أقوى من النظريات ومجلدات الكتب والمقالات... لسنوات بقي اليساريون يرددون عبارات "لا تصالح" للشاعر المصري أمل دنقل، أو "القدس عروس عروبتكم"، و"ديوث الشام وهدهدها" لمظفر النواب، أو كلمات عمر الزعني في هجاء النظام اللبناني وبشارة الخوري و"البلع"... وهذا الأمر ينطبق على الكثير من قصائد الثنائي إمام- نجم، اللذين برعا في تعكير صفو النظام المصري خلال زيارات بعض الرؤساء الأجانب إلى القاهرة، وبدت أعمالهما كملخص عام لما يحصل، تؤرخ للواقع السياسي المرّ.. فعندما زار الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، مصر، العام 1974، كتب نجم "شرفت يا نيكسون بابا"، وغناها الشيخ إمام، ما استفز السلطات، خصوصًا أن نجم يسخر في القصيدة من سياسة السادات، الذي طلب بعدها من أجهزة الأمن البحث عن وسيلة قانونية لمعاقبة نجم، فلُفّقت له قضية عرفت بقضية "شرفت يا نيكسون بابا"، وقد وجهت إليه النيابة تهمة الإساءة لرئيس الجمهورية، وتحاشت أن توجه إليه تهمة إهانة رئيس دولة أجنبية، لأن نيكسون في ذلك الوقت كان يتعرض لحملة صحافية في بلاده، قادتها صحيفة "واشنطن بوست"، بعد فضيحة ووترغيت التي دارت حول كشف قيام نيكسون بالتجسس على مكاتب الحزب الديموقراطي المنافس في مبنى ووترغيت...

ويُروى أنه حين زار الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، مصر، العام 1978، أعدّ له السادات سهرة عشاء "عرمرمية"، على ايقاع جسد الراقصة نجوى فؤاد، وبعدما تناول الحضور كباب وكفتة مصرية، وأعجب كارتر بالرقص الشرقي وجسد نجوى والكوشري، ثم طلب أن يرى الشيف الذي حضّر الطعام وتعلّم منه عبارة عربية "الأكل ده لذيذ"، وصل خبر السهرة الى الشيخ إمام، فاستدعى نجم وعملا معاً على أغنية جديدة: "يا كارتر يا ندل/ وصاحبك (السادات) وصاحب مراتك".

أما قصيدة جيسكار ديستان فلها وقع ميديائي "مميز" في المرحلة الراهنة، جعلت بعضهم يلجأ (حتى قبل وفاة ديستان) الى المقارنة بين توهمات المصريين بانتظار الفرج من زيارة ديستان الى مصر في منتصف السبعينيات، وبين توهمات اللبنانيين وانتظار "الخلاص" من زيارة الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون ومبادرته تجاه لبنان، وهو الذي التقى أقطاب الطوائف والملل والنحل في قصر الصنوبر، وكرّم فيروز في الرابية، وأطلق بعض المواقف الخلبية. بل ثمة من كتب مستذكراً ديستان في معرض الحديث عن الأوهام الإصلاحية التي بثتها خطابات حسان دياب زوراً وبهتاناً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024