نزية خاطر بطريرك النقد التشكيلي

بشير البكر

الإثنين 2021/02/08
لا ناقد للفن التشكيلي العربي يضاهي نزيه خاطر، منذ الستينيات في القرن الماضي وحتى رحيله في نيسان العام 2014، وكان شاهداً على الحركة الفنية لأكثر من نصف قرن. غطى ما شهدته بيروت من معارض تشكيلية، وتابع تطورات التشكيل وعاصر رموزه الكبار في فترة أوج الحركة الثقافية التي سبقت الحرب الأهلية، ولم يتوقف عن الكتابة والمتابعة رغم التراجع الذي عاشته هذه المدينة بعد ذلك. وكانت البداية من تسلّمه إدارة أولى صالات العرض الفني في بيروت مثل "غاليري أليكو"، و"غاليري وان" (مع يوسف الخال)، كما كان أحد مؤسسي مسرح بيروت (مع ليندا سنّو). وأسّس خاطر، نهاية الخمسينات، أول صفحة ثقافية أسبوعية بالفرنسية في جريدة "لوسوار" البيروتية، ثم انتقل العام 1964 إلى زميلتها "لوريان لوجور" التي أطلقها جورج نقاش العام 1924، قبل أن يدعوه الشاعر الراحل أنسي الحاج إلى الكتابة في "النهار".

ظل مقال نزيه خاطر في صحيفة "النهار" جديداً، ولم يعرف الضجر أو التعب والتكرار، بل كان يعبّر عن ناقد مهني رفيع لا نظير له في عالم النقد التشكيلي الذي كان مغرقاً في المحلية في البلدان العربية الأخرى، في حين أن خاطر كان عربياً وعالمياً بامتياز، هو الذي يحمل شهادة دكتوراه في فنون المسرح من جامعة "السوربون" عن أطروحته "المسرح اللبناني بين ثورتين 1958 ـ 1975". وتابع تخصصه الفني في فرنسا في ميدان المتاحف، وعاد نهائياً إلى بيروت العام 1978 كي يتابع التدريس في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (مدة 25 عاماً)، حيث كان ممن وضعوا حجر الأساس لإنشاء معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية.

صالات العرض كانت تحسب حساب نزيه خاطر قبل غيره من نقاد الفن التشكيلي، وتنتظر وصوله إلى المعرض، وتظل تترقب صدور مقاله في "النهار". مقال لا يترك مجالاً للمساومة، بل هو قاطع مثل حد السيف، فإما أن يرفع الفنان أو يسقطه، ومن لم يكتب عنه يكون فاته تكريم هذا الناقد له. وكانت والدته تردد عليه دائماً: تنتظرك العداوات. ففي مقالاتك كنت ترفع موهبة فنية أو تحط من قدر فنان. جميعهم يخشاك، يراعيك، أخلاقك تمنعك من شن هجوم على الأشخاص الذين لا تحبهم فتتجاهلهم لئلا تؤذيهم، وكان ذلك كالعقاب أحيانًا، فليشتمنا لو شاء، لكن فليكتب عنّا. إذا ذكرني نزيه خاطر في صحيفة النهار فسيعرف اسمي الجميع".

ترك نزيه مئات المقالات والدراسات في الفن التشكيلي والمسرح، لكنه لم يترك كتاباً واحداً، لم يجمع مقالاته التي تصلح لتكون مرجعاً وتاريخاً للحركة التشكيلية على مدى نصف قرن، ولا أظن أن جهة ما تبرعت بجمع نتاجه لنشره في كتاب مع أنه يستحق أكثر من ذلك، بوصفه أكثر الشهود والنقاد حضوراً في تاريخ بيروت التشكيلي، والكتاب الوحيد الذي صدر عنه على حد علمي هو كتاب النحاتة والباحثة والأكاديمية اللبنانية نادين أبو زكي "نزيه خاطر جمهورية الأعداء" الصادر عن "دار النهار" باللغة الفرنسية، وترجمة نهلة بيضون، ووضعت الكاتبة نزيه خاطر في مكانة الظاهرة: "نزيه ذاكرة من ذاكرة بيروت الثقافية، وعين ثاقبة، وشاهد على سنواتها الذهبية. إنه البطريرك الذي تربع على مدى نصف قرن إلى جانب أسماء بارزة أخرى، على إمبراطورية النهار: الصحيفة اللبنانية الأولى. وفيٌّ، مستقيم، سخي، لا يساوم على أفكاره، ثابت على مبادئه، متصالح مع نفسه، فخور، عنيد حتى الصفاقة، خفيف الروح، كتوم، حلو المعشر، رقيق الجانب، غامض، خفي، متحفظ، قريب، بعيد يحدوه إيمان شديد بالحياة".

ولم يكتف نزيه خاطر بمعارض وصالات بيروت، بل كان يسافر، كل صيف، ليقضي اجازته في باريس ليتابع الجديد في الفن التشكيلي العالمي، ولا يغفل في أسفاره التشكيليين العرب الذين استقروا في العاصمة الفرنسية، وكان يبحث عنهم ويتقصى أخبارهم وما أنتجوه، وكيف يفكرون. وحضرتُ معه زيارتين إلى الفنانين يوسف عبدلكي، صخر فرزات، وسمير سلامة. وكان يطلب من الفنان أن يضع أمامه ما أنتجه خلال عام، ثم يمضي وقتاً طويلاً في التأمل ويسأل أحياناً حين يشكل عليه الأمر. وأحياناً، لا تكفيه جلسة واحدة، فيكرر الزيارة كي يخرج بمقال جديد في "النهار"، وهو بذلك من أكثر النقاد متابعة للإنتاج التشكيلي في لبنان وسوريا، وأكثر من ورد ذكره على ألسنة الرسامين سلباً أو إيجاباً، هو الذي تعلم الأصول والقواعد خلال دراسته في "اللوفر"، لكنه بذل جهوداً جبارة ليدرس لوحده الحركة التشكيلية العربية ذات المصادر والمدارس والاتجاهات المتعددة والمتنوعة.

يمتاز مقال خاطر أنه بعيد من المتابعات النقدية السريعة التي تفرضها الصحافة اليومية، فهو يكتب المقالة كي تعيش وتقاوم الزمن، أي أنه كان يخرج بنص عن اللوحات التي يشاهدها، مكتوباً بلغة النقد التي اسست لصحافة ثقافية جديدة ومختلفة. وهنا نسجل لنزيه أنه يكاد يكون الوحيد ممن عملوا في الصحافة الثقافية ولم يكن متلبساً بموهبة أخرى كالشعر أو الرواية او الرسم، ما حصّنه ضد التنظير والانشائية والانحياز، وبالتالي كان الوحيد الذي أعطى النقد كل وقته، ومارسه بحب واحترام وصدق، ولذلك ترك مكانه فارغاً في الحركة النقدية التي فقدت برحيله أحد أبرز مؤسسيها الذين أرّخو لأكثر من نصف قرن كحرفيّ في الفن التشكيلي، بالإضافة إلى مجالات الفنون المشهديّة والبصريّة. أما كونه ناقداً تشكيلياً لا يتقن فن الرسم فيرى متخصصون، أنها كانت نقطة ضعفه. لقد كان ذكياً وملمّاً، لكنه لم يفلح في النهاية في التأشير بشكل واضح الى مظاهر التطور والتغيير في الحركة التشكيلية، فقد ظل نقده الى حد كبير استشراقياً.

وشارك بطريقة مباشرة في إقامة المعارض للفنانين اللبنانيين من ميشال بصبوص وجان خليفة وسعيد عقل، الى ايفيت أشقر وهنيبعل سروجي وريتا النخل وآخرين، وفي فترة من الفترات ساهم في العمل التلفزيوني، وأعد برنامج "ثقافة وناس" في "تلفزيون لبنان"، الذي كان محطة ثقافية أثرت في العمل الصحفي، حتى أن هناك من سطا على اسم البرنامج واستخدمه في صحيفة ورقية حتى اليوم.

كان خاطر من الكتّاب الذين يتنفسون مع الكتابة ويعيشون لأجلها، ومن طينة الصحافيين الذين ينقصهم شيء أساسي إذا توقفوا عنها، ولذلك دخل في حالة اكتئاب حين تم توقيفه عن الكتابة في "النهار" العام 2010، وتغير إيقاع حياته كلياً، وانقطع عن التواصل ولم يعد يمارس حتى العادات اليومية التي رافقته طويلاً. كان كثير الحضور في مقاهي شارع الحمرا القريبة من بيته. يلتقي أصدقاء وعابرين أو يكتب مقالة، وفجأة عزف عن ذلك وتوقف هذا النشاط الذي كان يمده بسعادة خاصة، فأصابه ذلك بالغم، وبدأت صحته تتدهور ليرحل بعد سنوات قليلة وهو ما زال في أوج العطاء رغم سنينه الـ84. ومن المراثي المؤثرة كانت جملة الشاعر شوقي أبو شقرا الذي عرفه في "النهار": "نزيه لم يكن إلا الشرس في ميدانه، في ساح الكلمة. ولم يكن أيضاً إلا الحنون في بطانته في حاشيته وفي من حواليه".

وتظل قصة نزيه مع مدينة بيروت ذات شجون "المدينة التي يصعب الحديث عن مدينة واحدة فيها"، والتي "تنمو بين خيانة ذاتها والإخلاص لذاتها"، والتي "أخذناها إلى حيث شعرنا أن الحلم في متناولنا"، بحسب تعبيره. وقال عنها في أحد حواراته الأخيرة أنّها "تستولد ذاتها ولا تتكرر"، ثم أضاف بنبرة مخلوطة بمرارة: "إنها البداية والنهاية، ونحن رحّالة". هو يعني بيروت، لكنه يعني المدينة التي كانت تشكل له مفهوماً في الحداثة والتجديد، وهنا يكمن السر وراء تخصصه في دراسة المتاحف.

وفي الختام تجدر الإشارة إلى أنه ابن الأديب والمؤرخ لحد خاطر، الذي امتلك مكتبة غنية وضخمة ساعدت في نشأة نزيه الناقد الشقي والمحنك. والشيء المهم أن نزيه كان أيضاً صاحب سلطة على المسرحيين لا تقل عن سلطته على التشكيليين، فقد مارس بشكل مواز، النقد المسرحي بجدارة في صفحات "النهار"، وكان تأثيره كبيراً في إنجاح أي عمل مسرحي. إنه مثقف متعدد الوجوه وقارئ للشعر والرواية ومتابع لكافة الفنون كالتصوير والعمارة والسينما وسواها. وساعده فوق ذلك اتقانه الكبير للغة الفرنسية. وكان مع عصام محفوظ، وشوقي ابو شقرا وأنسي الحاج، من الأعمدة الأساسية في "النهار" التي كانت بدورها عمود الصحافة اللبنانية، بل العربية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024