خليل الفغالي.. الراوي الذي سَخر من الروائيين

محمد أبي سمرا

الثلاثاء 2019/07/30
في العام 2010 أمضيتُ ساعاتٍ كثيرة من نهارات متباعدة، أستمع إلى مرويات خليل خالد الفغالي، وأسجّلها في منزله حيث كان يقيم وحيدًا في الرابية التي انتقل إليها أواسط ثمانينات القرن الشعرين من المريجة بعد تهجير أهلها وحرق بيوتها التي ولد في واحد منها سنة 1934. أحيانًا كانت ابنته المقيمة في بسوس، تأتي إلى الرابية لتزوره، فيؤنسه حضورها في بيته ويفرحه. وبعدما قدمت لنا القهوة مرةً وعادت إلى المطبخ، قال لي بسخريته المعتادة: إنجاب البنات خيرٌ ألف مرة من إنجاب الصبيان. فالصبي يمنّنك ويحمّلك ألف جميل لأنه وُلِدَ صبيًا وليس بنتًا.

قبل التذرّر الجماهيري
استمتعتُ بالاستماع إلى روايات الفغالي الكثيرة المتنوعة المشوّقة في تصويرها مشاهدَ من الحياة المادية والحوادث والعلاقات الاجتماعية في قرى ساحل المتن الجنوبي، وامتدادًا إلى جبل لبنان وبيروت في السنوات الأخيرة من الانتداب الفرنسي وبدايات الاستقلال في أربعينات القرن العشرين وخمسيناته. لم تصوّر رواياته وحدها مشاهد ذلك الزمن اللبناني وحوادثه، بل إن صوته الخشن ونبرته الجهورية الواضحة ولغته دقيقة الألفاظ والعبارات والدلالات، كانت تطلع من ذلك الزمن إياه: تستحضره وتبعثه حيًا من مسافة مُباعِدة، وفي مشاهدَ مسرحيّةٍ تستبطن سخريةً هادئة تلازم روايته. فروايته لصيقةٌ بذلك الزمن الهادئ البطيء الذي اجتاحته قوة الفوضى الجماهيرية في العمران والاجتماع في الستينات والسبعينات، واستكملت الحروب الأهلية محوَهُ وجعله قديمًا، بل أثريًا ومتحفيًا، وعديم الحضور في الذاكرة والمخيلة التاريخيتين اللبنانيتين اليوم.

وما تبعثه حيًّا ومسرحيًا، روايات الفغالي وأخباره، وتخرجه من القطيعة والمحو، هو زمن اللبنانيين الاجتماعي في تلك الحقبة، بلغته وحوادثه ومسارحه وشخوصه، لتصوّره تصويرًا حدثيًّا وماديًا، يندر حضوره في مرويات أحدٍ سواه. وهذا ما يجعل الراوي صاحب فن روائي لا أثر فيه لنرجسية الروائيين التي تضخِّم الأنا والذات وتجعلهما محور العالم والرواية. فالحوادث ومسارحها وشخوصها وكثرة الفاعلين فيها وتنوع هوياتهم وقيمهم ولغاتهم ومواقفهم وأدوارهم وأهوائهم المتدافعة المتعارضة، هي مادة روايات الفغالي التي يقيم بينه وبينها مسافة زمنية وفنية ساخرة. وهو نَقَلَ إليّ شغفه بالرواية وبفنه الروائي الساخر الذي زوّد مخيلتي بمشاهدَ غزيرة عن زمن لبناني تندر مادته في الأدبيات الاجتماعية والروائية، ويعزّ الحصول عليها من مصدر آخر. وهي مادة إخبارية ميكروسوسيولوجية مشهدية تكشفُ عن وجوهٍ وصور للبنان الاجتماع والسياسة لا تتوفّر إلا في الروايات الشفوية لمعاصريها الحكّائين العاميين، أولئك الذين لا تسكرهم المناصب والمكانات، فتُسكِتُهم وتخرسهم في حال امتلاكهم سليقة إخبارية أو روائية.

وأخبار خليل خالد الفغالي ورواياته غزيرة ومتنوعة في مادتها. فهي شهادة حيّة تصوّر عمل الهيئات والمؤسسات الاجتماعية والإدارية والسياسية اللبنانية، والعلاقات بين مناصبها وأقطابها ومقدميها وبطاناتهم، وعلاقات هؤلاء بالجماعات الأهلية، الطائفية والعائلية والقرابية في لبنان ما قبل فوضى الاجتماع والتذرر الجماهيريين الكاسحين في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، واللذين أفضيا إلى الحروب الأهلية سنة 1975.

ومن خارج سياق مرويات الفغالي وفنه الروائي، يرد تساؤل راهن لا بد منه: هذه المعمعة السياسية والاجتماعية والإدارية التي نعيشها في لبنان اليوم، ألا تحتاج إلى رواةٍ مثله يروون لنا مشهديًا وقائع ما يدور بين أهل السياسة وأصحاب المناصب الإدارية والأمنية، ولا ينكشف منها سوى التصريحات والمهاترات الفوغائية والتحريض الأهلي الطائفي والعصبي الذي غايته ذر الرماد في العيون، وتتدفق علينا سيوله فيّاضةً في الإعلام الجماهيري؟

ضد الطوبى اللبنانية
والزمن اللبناني الذي يروي الفغالي أخباره - وهو سابق على فوضى التذر الجماهيري الكاسح، وعلى الاعتصاب الحربي المدمر - كان يطغى عليه ما سُمي "الزمن الجميل" في الأدبيات اللبنانية الدعائية والفنائية، من دون أن ينتبه أحدٌ إلا نادرًا لما كانت تنطوي عليه بطانة ذلك "الزمن الجميل". وهي البطانة التي تكشف عنها روايات الفغالي وأخباره التي لا تنقاد مطلقًا إلى طوبى ذلك الزمن وصورها ولاهوتها، فيما كان ولا يزال الانقياد إليها يُفقدُ كل خبرٍ ورواية عن لبنان المجتمع والإدارة والسياسة المادة الإخبارية والروائية الفعلية، ويحيلها ضربًا من غثيان كلامي وإنشائي عن الفرادة اللبنانية السرمدية المقدسة.

فعاميّة الفغالي، وبقائه عاميًّا في حياته وتجربته، على الرغم من عيشه إلى جانب أصحاب المناصب والمكانات وفي بطانتهم، هما ما حرّره وحرّر أخباره ورواياته من سلطان الطوبى اللبنانية وسحرها وخرافتها العمياء. وعاميّته إياها حرّرته أيضًا من رواية ما عاشه وخَبِرَه وشهده وسمعه روايةً ذاتية، أو عُظامية نرجسية مشخصنة، وتسترسل في لغة إنشائية، غنائية وعاطفية، تستغرقها أحكام القيمة الأخلاقية والذاتية.

هو في شخصيته ورواياته على خلاف ذلك وعكسيه: ينفر بالسليقة والغريزة من مثاليات الطوبى، ومن الإنشاء الفنائي الأخلاقي والذاتي. ويذهب بلغته المادية المتقشفة إلى الحادثة والفعل ومسرحهما وشخوصهما، زمانًا ومكانًا وأسماء وأدوارًا وأهواء وشبكة علاقات عارية من حضور الراوي وأحكامه الذاتية على الفعل والفاعلين. أما في حال حضوره، هو الراوي، على مسرح الحوادث التي يرويها، فيحضر دائمًا محتفظًا بمسافة مُبَاعِدة، ولا يوفّر نفسه من السخرية الخفيّة التي تلابس رواياته كلها. وهو في فنّه الروائي هذا روائيٌ عاميٌّ ساخر لحوادث تاريخ اجتماعي وسياسي لبناني، على غرار مارون عبود، وعلى الضد من جبران خليل جبران وقرينه اللدود ميخائيل نعيمة، إذا شئنا مقارنة روايات الفغالي الشفوية العاميّة بأساليب المدرسة الأدبية الكتابية اللبنانية الحديثة.

فَقْدٌ وأنس مستمران
أمس استمعت من آلة التسجيل إلى الروايتين الأخيرتين اللتين سجلتهما من مرويات الفغالي الكثيرة. في بداية التسجيل سمعتُني ألحُّ عليه طالبًا منه حثّ ذاكرته وتحفيزها، مستزيدًا من رواياته، فإذا به يبادرني بقوله ممازحًا وساخرًا من نفسه: لازم تطوّل بالك عليّ يا أستاذ، أنا موتيري عَ المازوت، انقطع نفسي. لكنني كنت أعلم أن شغفه بالرواية لا ينقطع، فخيّرني بين روايته واحدة من حادثتين تذكرهما معًا: حادثة قتل سعد الدين باشا شاتيلا سنة 1951، ومحاولة اغتيال سامي بك الصلح، رئيس الحكومة اللبنانية في نهايات عهد كميل شمعون الرئاسي، سنة 1956.

في نهاية استماعي إلى الروايتين وتدوينهما، رحتُ أبحثُ عن دفتري الصغير القديم الذي كنتُ أدوّن فيه أرقام هواتف من أعرفهم وأسماءهم، قبل استعمالي الهاتف خليوي. عثرتُ على الدفتر، واتصلت برقمَي هاتفَي خليل خالد الفغالي: الخليوي الذي أجابتني منه امرأة قالت إنها ابتاعت رقم هاتفها هذا منذ أكثر من سنة، ولا تعلم شيئًا عن صاحبه السابق. أما هاتف الفغالي الآلي في منزله في الرابية، فأجابني من رقمه شخص قال إن منزله في وادي شحرور، وحصل على الرقم منذ أشهر ستة من شركة أوجيرو.

وفكرتُ أن أقصد بلدة بسوس القريبة من عاليه، باحثًا عن ابنة خليل خالد الفغالي، فانتبهت إلى أنني أجهل اسمها، ولا أعلم عنها شيئًا ولا أذكر أي ملمح من ملامح وجهها. بل إنني تهيّبت الذهاب إلى بسوس التي زرتُ مرة متحف الحرير فيها قبل سنوات من تعرفي إلى الفغالي الذي تهيّبتُ أيضًا من ذهابي إلى بيته في الرابية.

وفي أثناء كتابتي روايته عن مقتل الباشا شاتيلا (تنشر في المدن لاحقًا) شعرت أنني أكتب شيئًا عن شخص فقدتُ إلفته منذ سنوات عشر، بلا انتباهٍ مني ولا دراية، بل بقلة وفاء، قد تكون من طبيعة حياة البشر وأقدارهم وطبائعهم الدنيوية. شخص أليف أشتاقُ إليه وإلى إلفته ورواياته، وآنسني حضوره وصوته اللذان لا يُنسيان. وآنستني أخباره ورواياته، وتستمر في مؤانستي، مثل الكتابة، طوال سنين كثيرة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024