بوينس آيريس: نساؤها وأوشحتهن

شادي لويس

الجمعة 2018/12/21
في مطار غاتويك الإنكليزي، نظر إليّ موظف شركة الصرافة بقليل من التبرم وهو يخبرني بأنهم لا يتعاملون بالبيزو. كانت علامات تبرمه قد زادت وهو يجيب على سؤالي الثاني، فقد ذهبت الى ثلاث شركات للصرافة في المطار اللندني، بلا نتيجة، وسألته إن كان هناك من يبيع العملة الأرجنتينية: "لا أعتقد، سعرها يتغير يومياً، بشكل لا يمكن التنبؤ به، الأمر يشبه المقامرة". 

لم يكن الرجل مخطئاً على الإطلاق، ففي الساعات الأربعة عشرة، بين اقلاع الطائرة من لندن ووصولها إلى بوينس آيريس، كان البيزو قد فقد عشرة في المئة من قيمته. وبدا أن الحظ قد لعب لصالحي، فقيمة المبلغ الذي أحمله معي بالاسترليني، زادت في طرفة عين، وللأسف كان هذا يعني أن البلد الذي أزوره قد تضرر بالنسبة نفسها، مضروبة في عدد سكانه.

في مطار بوينس آيريس، كان الحصول على البيزو أمراً صعبا أيضاً. فالبلد التي تضربه أزمة مالية بعد أخرى، وضعت حكوماته سلسلة من القيود على صرف العملة، ولا يوجد سوى منفذ وحيد لتغيير العملة في مطار عاصمته المزدحم. كان الطابور طويلاً، وحركته بطيئة، وكان لي أن اكتشف لاحقاً أن هذه هي طريقة تصريف الأمور في المدينة، طوابير طويلة يتعامل معها الجميع بصبر، وحركة بطيئة في دعة تشبه الاستمتاع. لم يعد أمامي، سوى ماكينة سحب النقود، التي حذرني الجميع منها، لكني كنت مضطراً، سحبت ما يكفيني ليوم واحد، وخصمت الماكينة من حسابي، أربعين في المئة أضافية من قيمة المبلغ، كمصروفات.

"تفهم الآن، لماذا نحرق البنوك مرة كل بضعه أعوام"، علّقت صديقتي الارجنتينية، سونيا، على شكواي ضاحكة، قبل أن تستكمل تبرمها من الأزمة التي ضربت البلاد، ومن فقدان عملتها أكثر من نصف قيمتها، منذ بداية العام. فالسياسات التقشفية للرئيس ماكري، المليونير القادم من خارج الأحزاب التقليدية، ضربت البلاد بواحدة من أسوأ أزماتها منذ انهيار اقتصادها بالكامل في 2001.

وضعت الحقائب في الغرفة المؤجرة، واصطحبتني سونيا بعدها مباشرة من شمال المدينة إلى وسطها، بغية الذهاب إلى أحد منافذ صرف العملة. كان هناك القليل مما يظهر للعيان من الأزمة للوهلة الأولى. فالمدينة الكولونيالية وشوارعها الواسعة والطويلة والمقسمة في خطوط مستقيمة ومستطيلات منضبطة، بدت زاهية بصيفها المشرق في ديسمبر، أكثر من أي مدينة أوروبية. كانت آثار التظاهرات الضخمة في اليوم السابق لا تزال مرئية. الكثير من الملصقات على الجدران وبقايا لافتات محطمة وملقية على أرصفة الشوارع. كان قرار أحد المحاكم بتبرئة المتهمين باغتصاب مراهقة وقتلها، السبب في إندلاع المظاهرات. فحركة "الأوشحة الخضراء" النسوية، بعدما خسرت معركتها لتخفيف القيود على خيار الإجهاض في مجلس الشيوخ الأرجنتيني، في شهر آب/أغسطس، نالت زخماً استثنائياً، وتصاعدت شعبيتها على خلفية عدد من جرائم اغتصاب النساء وقتلهن، شبه اليومية.

في الشوارع، كانت صورة الفتاة المقتولة "لوسيا بيريز"، ملصقة مع كلمات غاضبة. فجريمة قتلها في 2015، كانت الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات، وحولت الحركة النسوية إلى حراك شعبي عريض وراديكالي وقاعدي. أما "الأوشحة الخضراء"، فكانت في كل مكان، مشهد يومي سأعتاد عليه كشعار للمدينة نفسها، تلفه النساء حول أعناقهن، ويضعه الأطفال على حقابئهم، وترفعه الأسر في الشرفات وعند مداخل البيوت. كانت رفيقتي سونيا غاضبة ومتحمسة، وهي تتكلم عن اللون الأخضر، مثل كل من قابلتهم في المدينة. فالسنوات الثلاث الماضية، بحسبهم، حولت المجتمع الارجنتيني، بشكل جذري، وزلزلت ذكوريته المطمئنة بحراك يومي تقوده النساء الغاضبات واللواتي يبدو عليهن الفخر هنا أكثر من أي مدينة اخرى رأيتها.

مررنا بالصدفة في ميدان "مايو" الشهير، وفيه بضعة عشرات من المتظاهرين من أعمار مختلفة، يدورون فيه، بحسب طقس تذكر ضحايا الديكتاتورية، والمطالبة بمعرفة مصائر المختفين لعقود وبالاقتصاص من الجناة. "لن ننسى، لن نعفو، لن نتعب"، هتف المتظاهرون بالشعارات نفسها التي رفعتها "أمهات مايو" في صمت قبل أربعة عقود، وتكررت يومياً حتى الآن. العشرات من "أمهات مايو"، من جيل السبعينات، جالسات في دعة ووقار، يحتسين الشاي ويتجاذبن الحديث، في أحد جوانب الميدان. كان المشهد مهيباً، ومؤثراً أكثر مما توقعت. أربعون عاماً من الوفاء بالرغم من فقدان الأمل المفهوم، ومازالت الأمهات جالسات هناك كل يوم، بأغطية رؤوسهن البيضاء، في الانتظار، وحتى لا ينسى أحد ثمن الديكتاتورية وذكرى ضحاياها.

كنا نلف الميدان، وأنا أصفق بيديّ على إيقاع الهتافات البهيجة، حين أخبرتني رفيقتي بأن الحركة النسوية تبنت أغطية رأس "أمهات مايو" وصبغتها باللون الأخضر لتكون وشاح المعركة الجديدة.

قادتني سونيا إلى واحد من الأسواق المغطاة، وتبعتها داخل ممراته المتشابكة، حتى وصلنا إلى أحد المحال، حيث وصلت رحلتنا إلى غايتها. كان المكان مكتباً غير رسمي لصرف العملة. تمت العملية في سلاسة وبأقل من دقيقة واحدة، وحصلت على سعر للصرف مُرضٍ جداً.

نظرت إلي سونيا، بقليل من السخرية من ابتسامة الرضا الواسعة على وجهي: "مرحباً بك في الأرجنتين، إستمتع بأزمتنا، قدر الإمكان، نحن اعتدنا عليها بأي حال".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024