كتاب الأغاني الجديد: كشفوا سر الهوى!

وليد صالح

الخميس 2019/07/11
منذ زمن تحدثني نفسي أن اجمع ما تشتت من ديوان الأغاني العربية الجديدة، في كتاب يكون عوناً للقابعين في بيوتهم بلا فيزا او فلوس. لكن ثورات الربيع العربي، كانت قد منّتني بالأماني، فقلت ما لي والأغاني، نشد أزر الحرية – لكني أفقت يوماً أصرخ: هابيس كوربس،  Habeas corpus، وهي كلمة قانونية لاتينة. وعرفت وقتها أن عجزي السياسي لا ينكر، وأن أهم كلمة عربية الآن هي كلمة لاتينة قانونية، "آتني بالجسد". والكلمة لها ترجمة طويلة تقول: "نحن، أي هذه المحكمة، نأمرك (أي السلطة التنفيذية) ان تجلب جسد الموقوف أمامنا". وبما أنني لست أعرف من القانون إلا عدمه في العالم العربي، عزمت الأمر على أن أعود الى الأغاني، فهي لا تخفيك قسراً في سجونها. فالأغاني هي ما بقي لنا. الأغاني جسد حلمنا المتبقي.  

رباب (1947-  1990)، التي غنت أسى حياتها. ولدت في العراق، أي أنها قانونياً كانت عراقية، لكنها عاشت منذ طفولتها واستقرت في الكويت وبنت حياة فنية هناك. ويبدو أنها مُنحت الجنسية الكويتية لكنها سحبت منها – "قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ". كانت رباب ضحية من الضحايا الكثر للغزو العراقي للكويت. والقصة عربية بامتياز، فـ"المجرمة" غنت يوماً لصدام حسين خلال الحرب العراقية-الايرانية، ومن منا لم يغنِّ لأحدهم، ونُظر إليها بعد التحرير على أنها واحده منهم، خائنة. وسُحب جواز سفرها ومُنعت من العوده الى الكويت.

وكقصص كتاب "الأغاني" للأصفهاني، نجد رباب هائمة في طائرة تطير من مطار الى مطار ليتوقف المطاف بها في مطار البحرين، كالمطلقة التي ذروها معلقة، لكن في السماء. والقصة لا أدري إن كانت حقيقية أم لا، لا يهم، فهي أكثر حقاً من الواقع. المهم، وهي قابعة هناك، تعطلت طائرة أميرة من الإمارات العربية المتحدة – تقول ويكيبيديا إنها الشيخة أم خالد- وقد فشلتُ في معرفة من هذه الأبية حقاً. التقتها الأميرة وسألتها عن حالها. يا ويلها مشنططة، وأنت مهما تجنيت على العرب فإن فيهم إضاءات تجعلنا نحمد الله على كرمنا. اتصلت الأميرة بزوجها وحملتها على طائرتها واستضافتها في الإمارات العربية التي باتت بلدها الثاني (عفواً الثالث). لكن حتى الأميرات لا يستطعن حولاً مع الوطن العربي، فالعطار لن يصلح ما أفسدناه. كرم الأمراء لن ينفع منفيّة أفاقت ليقال لها: أنتِ لست من أنت. رباب ستعيش مطرودة عن وطنها الكويت الذي لم تخنه. لكن ما لنا والنساء وعويلهن؟ رباب عاشت الهمّ العربي، تريد العودة الى بلد لا يريدها، تحكي قصتها لكل فاضٍ راضٍ. رباب قد تكون أقوم رجل وأوفى مواطن، لكن من يسال العربي عن رأيه؟ نسمع رباب فقط حين تغني، غنّي لنا يا رباب – هل تصدق هذا الاسم، رباب، وكأنه جاءنا من البعيد، حتى اسمها حلم ليلة انقضى سريعاً.   

رباب لا اصل لها ولا فصل، ككلنا، هي ليست من قبيلة، ويبدو أنها كانت عرضة لسرقات فنية بعد ذلّها. لكن هذه الأمور يصعب توثيقها، وإن كنت أميل الى تصديقها. رباب تنتمي الى السلف الأول من المغنيات الخليجيات، قبل أن تصبح المهنة عملاً شريفاً لبنات القبائل – إن كنتَ تريد أن تتذوق العنصرية هذه، فما عليك إلا أن تبحث عن كلمة طقاقة وأم ركبة سودة – يعني كيف لنا عين نشتكي عن العنصرية ضدنا، لا أعرف! المهم كانت رباب ريادية في وقت وحشة وظلمة للنساء المغنيات. 

رباب صاحبة ديوان من الأغاني، يُرجع إليه الآن، ويُغنى في كل مناسبة وفي كل عرس خليجي. فهي حالة خليجية خاصة. كانت، قبل أن تشتهر الأغاني الخليجية عربياً. وجمهورها خليجي في الأكثر. إن كنتَ مشرقياً، فأنت لا تدري ذلك، لأن الأغنية الخليجية لها بوتقة وبيئة يصعب الولوج اليها إلا بعد عناء. فهناك عربيات أخريات، غير مذاق عربية المشرق ومصر، وهناك غير فيروز وأم كلثوم، هناك حنين آخر وبحّة اخرى. وما القومية العربية إلا نسيج خيال الاغاني؟ صوتها صوت المطربات الأوليات، صوت مخدوش. لا تخطئ لحناً، وتوقيتها كما مغني الجاز، على الثانية. أغانيها رغم أفولها، من أساسيات الأغنية الخليجية. ولا أغنية أشهر من أغنيتها، المجهولة تماماً خارج الجزيرة العربية: "كشفوا سر الهوى"...

"يوتيوب" دليل الحائرين ومُسلّي الأرامل، أغنية تجر أخرى. رباب كانت حادية عيس. وكنت استمع أولاً الى أغنياتها المشهورة، لكن قليلاً قليلاً بدأ الصعب يظهر. وفجأة يبدأ لحن آخر، وقع خليجي، الأغنية لن تتركك فرحا، وحين تبدأ تفاجأ. فالكلمات عربية قح! عربية سهلة، لكن فصيحة. وتعرف أنك الان في عالم خلقناه بأيدينا نحن العرب، كل ما دمرناه وكل الأحلام التي خابت تسامح الآن، يعاد بناؤها بكلمات أغنية لا تموت. كزرع سُقي بعد عطش، تعرف انك وصلت. ويبدو أن رباب هي الأنثى المغنية الوحيدة التي غطت هذه الأغنية الكويتية الذكورية.  فهي من محب الى حبيبته. لكن تغطيتها هي في رأيي، المعيار والمنى، فرباب أخذت الأغنية وجعلتها لها. 

كاتب الأغنية لا أعرفه، واسمه جمال الساير، والكلمات من أجمل ما كتب من أغاني العذل، لا لأنها أصيلة أو أوريجنال، بل على العكس تماماً: فكل كلمة قيلت من ألف سنة واكثر، وكل استعارة اهترأت من كثرة الاعارة. فأنت هنا في قلب الشوق والحزن، لن تجد عند هذا المحب جديداً. وهذا بالتحديد هو سر قوة هذه الاغنية، انت لا تسمعها، تعرفها قبل ان تبدأ، من قبل ان يخلق العذل والملامة. انت تعرف كل كلمة وما سيأتي بعدها – لا جديد هنا، لكن هذا ليس وقت الحدث، بل وقت الترجي.

هكذا أدت رباب الأغنية:


والأغنية قصيرة تتألف من أربعة مقاطع، كل مقطع من سطرين. وهي ميمية القافِية.  

كشفوا سر الهوى      وجنوا على الغرام
كشفوا حتى جنوا      وجنوا على المستهام

تبدأ الأغنية بعد الكارثة، فالفضيحة وقعت، والحب قد كشف، والجناية أصابت العشق، وما زالوا يتكلمون حتى أذوا المحب. والكشف هنا عكس الالهام، انه البوح الذي كلنا نعرف، حيث لا مجال للاختباء من القيل والقال. ونحن نعرف القصة. الحبيب يختفي، والعذول يظهر، ولا سبيل الى الوصال. لماذا اذن قوة هذا المقطع؟ من اين استمد قوته؟ ان كل كلمة في هذا المقطع قد قيلت، كل شطر قد كتب، لماذا نحسه جديداً؟ ان قوة هذا المقطع تأتي من ترداد الكلمات حيث كل شطر يحوي كلمة من الشطر السابق، ويصبح كأنه همس لقصة عاشها كل منا. كلمة "جنوا" تُردد ثلاث مرات، "كشفوا" مرتين، على مرتين. صوت المغني مستسلم. لا حيلة لك الا البكاء والترجي، فالفضح لا يراعي والقصة حقا كانت على كل مستمع! 

بالله لا تتركيني      وصليني فحرام 
وصليني وارحمي     وارحمي ذاك الغلام

الأغنية تلتفت الآن الى الحبيب. فالحبيب الآن على شفير هاوية الهجران، لا ضير في الترجي – ولن ينفع، نحن نعرف ما عاقبة الكشف. التكرار هنا مستمر، "صليني" ذكرت مرتين، وكذلك "ارحمي"، والاضداد ايضا تكرار، ترك ووصل، والجناس بين حرام ورحم. الأغنية خرزية المبنى، تجرك وراءها بالتكرار. والاغنية الآن لم تعد نابشة لذاكرة مشتركة فقط، بل ايضا تسكنك بحزنها، تلاحقك بكلماتها التي عرفتها منذ ولدت.   

جودي وارحمينى    فاخاف من الملام 
واخاف من عذولي   ومن ذاك الكلام
  
اين عهدي من حبيبي    اين ذاك الكلام 
وصليني وارحمي       وارحمي ذاك الغلام

القصيدة برمتها مختزلة بكلماتها، غائرة بميراثها. تنكأ الجراح، ولا داعي للتطوال. ذاك الغلام هو أنا وأنت. والتكرار راعب هنا: ذاك الكلام وذاك الغلام، فما الإنسان الا ما يقال عنه؟ ورغم اهتراء كلماتها، فالقصيدة ولدت لحظة سماعك لها، جديدة كما قال المسيح لأمه: "انظري أمّاه انا أجعل القديم جديداً!". النص الأعلى هو الرواية التي غنتها رباب، وهناك مقطع آخر لا اعلم متى أُضيف وكيف، وهو يتكلم عن سهام الحبيب. وهي الرواية الأشهر والاكثر غناء بعدها.  

أين عهدي من حبيبي    أين ذاك الكلام
أتراه قد نساني     ورماني بالسهام 

الأغنية تكاد لا تعطيك سرها، لكنك فطن انت، من لحظة السماع الأولى تدرك قوتها. ولا تظنن نفسك الوحيد الذي اكتشف جوهرة مخبأة. فأنت لست وحدك صاحب حس مرهف، كل خليجي يعرف ويحب هذه الأغنية، عندها تعرف أنك عربي وهناك شيء اسمه عرب. كل الجزيرة العربية أدركت سرها. فهذه الأغنية من أكثر الأغنيات الخليجية تغطية. ليس من فنان لم يغنّها. أنت إذا سرت وراءها في "يوتيوب"، ستدرك ذلك، خصوصاً في الأعراس.  

أداء يَمَني، للمغني ماجد السعدي:


وعلى العكس من فيديو رباب – حيث لا فيديوكليب، فإن تغطية ماجد السعدي هي لقطة حية من عرس حقيقي، وهناك تخت شرقي. والأهم هنا الأداء مع تقسمة (هل اتفقنا كعرب أن نترجم improvisation بتقسمة من تقاسيم؟) حيث ستؤدي الكمنجة مع العود أدواراً بارزة. هذه كلها تجعل الفيديو فريداً، وإذا أضفتَ اليه الرقص اليمني التقليدي، فأنت في عالم آخر لم تمحه سلفية السلف الصالح. 

يبدأ الفيديو بالتركيز على العريس – الوحيد الذي يلبس بدلة غربية – الجمع كله في ثيابهم اليمنية التقليدية. تظن بداية أن العريس هو المغني، ثم يظهر المغني، هو في بداية مشواره الفني، أي انه ما زال فقيراً يغني في الأعراس العادية. وهو داكن والقات قد أكل منه كل ذرة لحم زيادة. ما بقي هو شباب صاف وصوت لا خدش فيه. والأغنية هنا مغايرة أيضاً، مع استعمال الإمالة في لفظ الياء في معظم الكلمات – تجعل قلبك ينوجع. 

إن اجمل ما في هذا الفيديو، هو الرقصة اليمنية التي يقوم بها الشباب في حلقة أمام العريس.  ما يبدأ على استحياء، يزداد وتيرة ونشوة مع الوقت، لا ضير أن نفرح. حين تقترب الاغنية من نهايتها نرى الحلقة تسمح لنفسها بالانفلات من الخجل. نحن لا نكتب الشعر فقط، نحن لا نغنيه فقط. نحن نرقصه أيضاً، في كل صقع نحن أغنية.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024