كلهم على حق.. سورنتينو يكمل مورافيا

وجدي الكومي

الأحد 2017/02/12
في روايته "كلهم على حق" منشورات المتوسط - الصادرة بطبعة خاصة عن مكتبة "تنمية" المصرية، يطمح الروائي الإيطالي، باولو سورنتينو، إلى تأسيس عالم عبثي متفرد في عبثيته، يكاد يوازي في جماله أو يتفوق على ما فعله سلفه الإيطالي ألبرتو مورافيا. سورنتينو، المولود في 1970، والذي حاز جوائز عن إخراجه أعمالاً سينمائية، على رأسها "الجمال العظيم" The Great Beauty الذي حصد به جائزة أوسكار لأفضل فيلم أجنبي 2014، يبدو روائياً لا يشق له غبار، لا سيما في هذا العمل الذي صدر للمرة الأولى العام 2010، وترجمه معاوية عبد المجيد ليصدر بالعربية في 2016.

تدور الرواية حول المطرب الإيطالي طوني باغودا، الذي يغني في الأندية الليلية، ويقيم حفلة هائلة في نيويورك يحضرها فرانك سيناترا. هذا هو المشهد الافتتاحي للرواية، ويخطف سورنتينو أنفاس قارئه حينما يقرأ في الصفحات الأولى أن سيناترا سيحضر حفلة طوني، بينما يمضي سورنتينو بإيقاع سردي متصاعد وهو يقدم كل ما في جعبته عن طوني. يخلط المعلوماتية بالمشهدية في براعة سردية فائقة، بعبارات قصيرة متعددة، من قبيل "أحاول أن أصلّي فأنقب بين الذكريات القديمة منذ المناولة الأولى، ومن جانب آخر فإن الكوكايين يدمر الذاكرة وأنا مدمن على الكوكايين بكل سرور منذ عشرين عاماً".

ثم ينتقل ببراعة فائقة إلى اللحظة المثيرة التي يعيشها طوني باغودا، لحظة غنائه أمام سيناترا: "إن كان الله قد منح سيناترا تلك الحنجرة الذهبية فإن صوتي المتواضع منحة من القديس جينارو النابوليتاني".

ويتألق بطل الرواية في الغناء أمام سيناترا، فيأتي الأخير ليهنئه، ويبرع سورنتينو في اختلاق مشهد أدبي خيالي لخطو المطرب الأميركي سيناترا: "نسمع وقع خطوات ناعمة ومضبوطة في الممر، خطوات لأكثر من شخص يمشون على البساط الأحمر، يتقدمهم الحراس الشخصيون، ثم يظهر فرانك بهيبة ناقصة ومشية متمايلة محمرّ الوجه، مثل بعض الفلاحين والقرويين في إيطاليا". هكذا يصفه سورنتينو، مغامراً مع قارئه بمعلومات تكاد تنطبق على الواقع، فيقول: "فرانك قصير القامة أكثر من كل التوقعات المتشائمة، ينتعل حذاء يليق بالأباطرة".

بعبارات كتلك، يحبك الروائي الإيطالي المشهد على قارئه، الذي يستغرق تماماً الآن، وينتظر هذه المواجهة بين بطل الغناء الأميركي، والمطرب الإيطالي المغمور،. المواجهة التي يستغرق سورنتينو 25 صفحة في وصفها، تسفر عن هذا القول الذي في الغالب قاله سيناترا فعلاً في مناسبة ما، أو هو مأخوذ من أقواله: "خذ في الحسبان يا طوني أن الإنسان مهما بلغ من نجاح، فإنه يبقى كيساً من البراز".

الرواية أقرب ما تكون إلى منولوغ داخلي طويل. يقصّ طوني باغودا مشاهد من حياته، صباه، مراهقته، تعلّقه ببارونة إيطالية تسمى إليونورا فونسيكا، أرملة تناهز الـ56 من العمر، تقيم كالأباطرة في حي نبلاء، لكنها بخيلة، تضن عليه بشربة ماء، ثم تقوده للمرة الأولى إلى مخدعها، بعد حكاية مضحكة عن محاولة اصطياد ببغاء دخل قصرها. في بعض مواضع العمل، يشعر القارئ أنه تائه فعلاً بين الشخصيات الثانوية المتعددة التي تظهر، وتختفي، من دون أي دور محدد، سوى ملء صفحات بحكايات لطوني عن أصدقائه وإدمانه الكوكايين، وعن غرامياته. لكننا نكتشف أن سورنتينو يستخدم هذه الشخصيات المتتالية لصنع الهيكل لشخصية "طوني باغودا"، من الشخصيات الثانوية التي تظهر معتمة تماماً، كزوجته، التي يقول عنها: "منذ 15 عاماً كنت أمارس الجنس مع زوجتي من دون هوادة كالجواميس، أما الآن، فقد باتت قطعة أثاث بالية". يستخدم سورنتينو الفكاهة في مواضع كثيرة ليجعل السرد يتقدم بخفة. يصف الزوجة على لسان بطله: "الفرق الوحيد بين زوجتي والبيانو الأبيض طراز ستاينوي 1969، أنها تمشي والبيانو لا، تتكلم والبيانو لا، أحياناً تحاول أن تشتكي، لكنها مع الوقت اعتادت الشكوى وحيدة".

من المواضع الطريفة والملهمة التي تكشف كيفية عمل الروائي، أنه لا يركز على الحبكة الرئيسية، ولا يعنيه أن يهجر القارئ الكتاب فترة. يعتمد سورنتينو المنولوغ الطويل، الفقرات التي تشبه في سردها النمط التلقيني التعليمي، حيث يخصص فصلاً عن الإغواء، يعطي فيه دروساً للرجال متوسطي الوسامة في كيفية إيقاع فاتنة: "الدرس الرقم واحد عن الإغواء: لا يسعكم إلا الاستعانة بسلاح واحد، لكنه فتاك يهد الجبال: الكلمة".

ويمضي طوني، بطرافة وخفة ظل، في شرح كيفية الإيقاع بالحسناوات. يحرص سورنتينو على إضحاك قارئه، وتعويضه عن عدم وجود حبكات فرعية تشكل أساسات الحبكة الرئيسية، فيقول في نصائح غواية الحسناوات: "لقد دربتهن الأمهات المحترفات، علينا أن نهزم الأمهات، وهذه ليست مسألة بسيطة، فالأم تستولى على عقول بناتها حتى مماتهن، علينا أن نسحق هذا الود الذي يحجر قلوب البنات، عليكم ألا تدعوا المرأة تفكر ولو للحظة واحدة، بل يجب أن تتقدموا في كل لحظة، أكثروا الضحك، لا تهدروا الوقت بالنكات، إن كنتم لا تتمتعون بالطرفة فلا تتحولوا إلى مهرجين، ثمة حيل بدائية لمواجهة نقص الدعابة، وهي الإيقاع".

وحينما يشعر قارئ الرواية بأنه لا حبكة على الإطلاق، بل مجرد قصة مطرب أندية ليلية وطرائفه ونوادره مع أصدقائه، يعاجل باولو سورنتينو هذا القارئ بمنعطف خطير، يجعل بطله طوني باغودا ينفصل عن زوجته فجأة، يرحل إلى البرازيل، وهناك سيقضى عشرين عاماً في أدغال مدينة "ماناوس"، يكافح صراصير سوداء بشعة كثيفة الانتشار في كل مكان. ينعزل طوني، وتستعيد الرواية إيقاعها السردي المتدفق. وكي لا يجعلنا سورنتينو نشعر بأن إيقاع الرواية هوى، يعاجلنا بشخصية ثانوية أخرى هي "ألبرتو راتو"، الذي يلتقي طوني صدفة في بار من بارات "ماناوس"، هناك يتعرف ألبرتو على طوني، مطربه المفضل، وتأخذ الأحداث اتجاهاً مثيراً جديداً. ينجح الروائي الإيطالي، حاصد المركز الثالث لجائزة لوستريغا 2010 والتى تعد أرقى الجوائز الأدبية للرواية الإيطالية، في أن يسترعي انتباهنا، بالفصول التي يكتبها عن هذه المدينة المنسية في البرازيل، ورحلة المطرب الإيطالي إليها. وكما أرسل سورنتينو قارئه خلف بطله إلى البرازيل، يستعيدهما إلى روما، حينما يجعل رجل أعمال بالغ الثراء، يطرق باب طوني ذات يوم، ويحرر له شيكا بأرقام فلكية، ليعود معه، كي يغني له ولأسرته عشية ليلة الألفية.

رواية "كلهم على حق" تستمد أهميتها من كونها تسلط الضوء على الرواية الإيطالية المعاصرة. تجعلنا نطلع على التجديد الذي صنعه أحفاد ألبرتو مورافيا، في الشكل والمضمون. تحاكم الرواية قيم الحداثة والسياسة الإيطالية، وتنتقد بقسوة، المجتمع الإيطالي ونزقه وميله للاستهلاك، والنميمة. كما يومئ سورنتينو إلى تأثر المجتمع بموجات المهاجرين القادمين إلى شواطئ إيطاليا، والتحولات التي نتجت عن هذه الهجرات. رواية جميلة تجعل قارئها يتطلع إلى قراءة المزيد من أعمال كاتبها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024